عندما حكمت الأسود الأرض
ترجمة واعداد: مي اسماعيل
منذ بدء التاريخ تبنى الإنسان الأسد بوصفه رمزاً مقدساً للقوة والحماية. لكن عدد الاسود تناقص اليوم؛ إذ لم يعد هناك سوى نحو ستمئة أسد آسيوي تعيش في غابات شمال غرب الهند، ونحو 23 ألف اسد أفريقي. انخفض عدد الاسود بنحو أربعين في نصف القرن الماضي؛ لكنها كانت من أكثر الوحوش انتشاراً جغرافياً على الارض. قابلت جميع الحضارات القديمة الاسود، وكان لكل منها اسلوبها المتفرد في اعتناق مفهوم قوتها؛ حتى باتت الأسود رموزاً للروحانية والملكية والتعطش للدماء والألوهية؛ وحتى الأمان والسلام.
طقوس رمزية: العصر الحجري
قبل نحو خمسة عشر ألف سنة قتل الانسان الاول (الصياد- جامع القوت) الأسد واصطحبه معه الى كهفه شمالي اسبانيا. حينها كانت اسود الكهوف (بانثيرا سبيلايا- Panthera spelaea) تجوب أراضي أوروبا منذ أربعمئة ألف سنة على الاقل؛ لكنها أُجبرت على التنافس على الطرائد مع العدد المتزايد من البشر. لا بد ان الاسد كان طريدة متميزة، لذا، وبدلا من تقطيعه لغرض الطعام على مدخل الكهف (كما فعلوا بالطرائد الاخرى)؛ نقل الانسان أجزاء من الأسد الى الكهف. عثر العلماء على العديد من بقايا كف الاسد (عظام المشط) ما زالت المخالب متصلة بها. قدمت بقايا الحيوانات المتنوعة (ومنها الاسود) المكتشفة في كهوف “لا غارما” بمنطقة كانتابريا بإسبانيا دلائل على اسلوب الحياة اليومية لإنسان العصر الحجري القديم “Paleolithic” والحيوانات التي تفاعل معها لينتج الفن الأنثروبولوجي القديم على جدران الكهوف.
عثر المنقبون على بقايا الاسود في الجزء الخلفي العميق من الكهف؛ مع منحوتات عظمية على شكل بشري وقلائد من الأصداف؛ مما قاد الى الاستنتاج ان الاسود لم تُقتل لغرض الطعام. ترى عالمة الآثار “ماريان كويتو” من جامعة برشلونة المستقلة ان اصطياد الاسود كان جزءً من ممارسات طقسية، قائلة: “صيد الاسد ليس بالمهمة اليسيرة؛ ولابد ان تحقيقها والاحتفاظ بجزء من الغنيمة (الجلد والكفوف والمخالب) كان له دلالات خاصة. صيد الاسود في العصر الحجري القديم؛ وهو امر لم يكن شائعا بالتأكيد؛ لكنه مهم لما يكشفه عن ثراء وتعقيد العالم الرمزي لتلك المجموعات البشرية”.
الملوك: بلاد الرافدين
حكم الملك “آشور بانيبال” أكبر إمبراطورية في العالم حينها، للسنوات 668-627 ق.م؛ وشيّد القصر الشمالي (الموصل/ العراق حاليا). كانت جدران القصر مغطاة بنقوش بارزة منحوتة بمهارة تصور الملك وهو يصطاد الأسود؛ وهي مهمة خطيرة ترمز إلى واجبه بالقتال من أجل رعاياه وانتصاره الحتمي. في أحد النصوص القديمة المنقوشة على رقيم طيني سداسي الشكل يقول آشور بانيبال: “ثقبت حناجر الأسود الهائجة؛ كل واحد منها بسهم واحد”.. لكن عالمة الآشوريات “تشيكاكو واتانابي” من جامعة أوساكا جاكوين ترى ان توثيق واقعية تلك الاحداث أمر يحتاج للدراسة. بالنسبة للآشوريين تجسد شراسة الأسود طبيعة الملك وكيف يجب أن ينظر إليه رعاياه، وتتصور واتانابي ان الرابطة بين الاسد والملك كانت قوية جدا: “اللحظة التي يرفع فيها الاسد قائمتيه الاماميتين ليهاجم ضحيته بعنف، ويفتح فمه ليكشف عن أنياب حادة يمكنها تمزيق اللحم، ويواجه الخصم بعينين لامعتين يمكن أن يرى بها الخصم في الظلام حتى عندما لا يراه الخصم.. كل تلك الصفات تثير الرهبة والخوف في ذهن المتلقي؛ وهذه بالضبط هي المشاعر التي يجب ان يكون الشعور بها تجاه الملك”.
أما الملك “آشور ناصربال الثاني” (الذي حكم سنوات 883-859 ق. م.، سابقا لحكم آشوربانيبال- المملكة الآشورية الجديدة) فقد عرّف نفسه على أنه أسد، في نص منقوش على جدران وأرضيات معبد في نمرود.. جاء في النص: “أنا الملك، أنا السيد، أنا الجدير بالثناء، أنا المُفخّم، أنا المهم، أنا الرائع، انا المتقدم، أنا بطل، أنا محارب، أنا أسد، وأنا الرجولي...”. تمضي واتانابي قائلة: “قد يبدو من المتناقض أن تقتل ما تُعرّف نفسك به؛ وتكون صائد الاسود والأسد في آن معا. لكن هذا يدل على العلاقة الرمزية المزدوجة والمتعددة الأوجه بين الملك والأسد في بلاد ما بين النهرين”.
الألعاب: روما
كان اليوم الواحد من الألعاب الرياضية في الحلبات عبر ارجاء الامبراطورية الرومانية (ومنها حلبة الكوليزيوم في روما) ملحمة دموية تنتهي بمسابقات المصارعة، التي يقاتل المصارعون فيها بعضهم حتى الموت؛ بينما يخصص وقت منتصف النهار للإعدامات! لكن الجزء المُبهر عادة كان قتال الرجال والوحوش البرية؛ مثل الأفيال ووحيد القرن والاسود. خلال المراحل المبكرة من تاريخ روما كانت الحيوانات تُستورد لعرضها على الجمهور؛ كما يشرح المؤرخ “كريستوفر إيبليت” من جامعة ليثبريدج. ولكن بحلول القرن الثاني ق.م. أراد الرومان المزيد؛ لذا بدأ منظمو العروض (وبعضهم قضاة بارزون)، بتنظيم عمليات مطاردة، أو صيد الوحوش للترفيه. جرى توثيق تلك المناسبات في العديد من المصادر الأدبية وفي النقوش الوفيرة واللوحات والفسيفساء المكتشفة في أنحاء الإمبراطورية. عُرف أن هناك مدرسة للتدريب على قتال الوحوش (المسماة بالمدرسة الصباحية “Ludus Matutinus”) تقع شرق الكوليزيوم مباشرة. واكتشف الآثاريون مؤخرا كميات من عظام الاسود وحيوانات اخرى داخل نظام الصرف الصحي للكوليزيوم.
ناهيك عن توفير الترفيه وطريقة لاستعراض ثروات وسخاء المسؤولين؛ أبرزت حفلات الصيد الامتداد الجغرافي للرومان وبراعتهم البيروقراطية؛ كما يقول إيبليت: “بينما توسع الوجود الروماني الى شمال أفريقيا ولاحقا الى الشرق الادنى؛ أجرى الرومان الكثير من الاتصالات السياسية والتجارية واستطاعوا وضع البنية التحتية الملائمة لشحن الحيوانات البرية للاستعراضات. وهناك ادلة ان بعض وحدات الجيش الروماني أُرسلت لمهمات جمع الحيوانات حينما لم يكونوا منشغلين بالقتال”. لم تكن جميع الأسود التي جُلبت إلى روما بغرض ممارسة رياضة الدم، ولم تُقتل جميعها على الفور؛ بل كانت هناك اشارات الى اسودٍ مروضة تؤدي عروضا، ومنها أسد محبوب بشكل خاص، نعاه “ستاتيوس” شاعر القرن الأول الميلادي قائلا: “حزن عليك الشعب وأعضاء مجلس الشيوخ كما لو كنت مصارعا معروفا..”. وعندما بدأت الامبراطورية بالتداعي كذلك حل بالصيد؛ كما استطرد إيبليت قائلا: “في زمن الامبراطرية المتأخرة بدأت إمدادات الحيوانات بالنضوب؛ بسبب الصيد الجائر ولأن الرومان بدأوا يفقدون أراضيهم؛ خاصة في شمال أفريقيا”.
الحارس: اليونان
كان يُنظر إلى الإسود على أنهم حراس رمزيون في اليونان القديمة؛ لذا كثيرا ما زينت رسوم ومنحوتات الأسد القبور؛ لحماية الراقدين فيها. كذلك كانت رسومات الاسود تحمي بوابات مدينة “ميسينا-Mycenae” (العصر البرونزي). ولعل أشهر الاسود الاغريقية المعروفة هي تلك التي كانت تحمي ملاذا في جزيرة ديلوس ببحر إيجه، وهو أحد أهم المواقع المقدسة في العالم اليوناني القديم. تقول الاسطورة أن الآلهة التوأم “أرتميس-Artemis” (آلهة الصيد والولادة والعفة) و”أبولو-Apollo” (اله الشمس والموسيقى والتنبؤ) ولدا على جزيرة ديلوس. كما ان مواقع عبادة والدتهما “ليتو” و”ديونيسوس” (إله النبيذ والمسرح) توجد هناك ايضا. وللوصول الى الموقع على الزائر ان يجتاز فضاء يسمى “شرفة الاسود” حيث يقف ستة عشر تمثالا رخاميا لإسود مزمجرة مواجهة للشرق نحو البحيرة المقدسة. أُقيمت شرفة الاسود نحو العام 500 ق.م.، وتضررت التماثيل كثيرا بفعل الزمن وجرى استبدالها بنسخ جديدة. لكنها ما زالت توحي بالانطباع الذي ربما احس به الزائر القديم. يقول “فاسيليكي بارلو جايجي” عالم الآثار بجامعة لوزان: “قد تُذكّرنا اسود ديلوس بطريق أبي الهول في مصر القديمة؛ وهو أمر لا بُدَّ ان الاغريق قد عرفوا به قطعا. لكن التجربة هنا لا تتعلق بإدراك قوة الملك أو القوة السياسية؛ بل كانت الاسود تمثل بوضوح حماة للمُجمّع”.
الآلهة: النوبة
امتدت مملكة كوش القديمة (حوالي 760 ق.م – 350 م) في أوج توسعها من النوبة (السودان اليوم) لتشمل أجزاء من شمال أفريقيا. وكانت العديد من آلهتها ذات أصول مصرية. لكنهم عبدوا ايضا آلهة غير مصرية، كان من بينها “أبادماك- Apedemak” وهو إله برأس أسد، ظهرت عبادته لأول مرة كإله محلي جنوب النوبة وأرتبط بالملكية في كوش. تقول “إليزابيث مينور” عالمة الآثار بكلية ويليسلي: “لا يمكن المبالغة في تأكيد العلاقة المركزية لإله الأسد النوبي بالقوة والملكية”.. وترى مينور ان أبادماك كان بالنسبة للنوبيين خطيرا وتحت السيطرة معا.. من المحتمل أن الطبيعة المزدوجة لهذا الإله نشأت من الطريقة التي تصور بها أسلاف الكوشيين (في شمال النوبة وحضارة كيرما) الأسود ورسموها. كذلك كان للآلهة المصرية “سخمت- Sekhmet” ذات رأس الأسد (آلهة الحرب والشفاء معا)؛ نفس تلك الهوية المزدوجة التي تبدو متناقضة.
في ستينات القرن الماضي اكتشف الآثاريون أقدم تمثيل لأبادماك في معبد الأسد بموقع “المصورات الصفراء” وسط السودان؛ وهو معبد ذو حجرة واحدة من الحجر الرملي بناه الملك النوبي “ آرنيكاماني- Arnekhamani” (حكم سنوات 235-218 ق. م.). وتمضي مينور قائلة: “تطور ((تصوّر)) أبادماك من تاريخ نوبي أصلي طويل لآلهة الأسد التي لا نعرف أسماءها. كان الفارق الدقيق في عبادة الكوشيين للآلهة المصرية هو أنهم تبنوا دائما آلهة أجنبية وقاموا بتكييفها مع أشكالهم وممارساتهم الخاصة، التي تتناسب مع منظورهم الخاص لنشأة الكون. أما أبيدماك فكان أحد مظاهر نظرتهم الإلهية الخاصة للعالم”.
الرمزية: الهند
كان توحيد البلاد من بين الأهداف الرئيسية للإمبراطور “تشاندراغوبتا” (مؤسس الأسرة الموريانية بالهند، الذي حكم للسنوات 321 - 297 ق. م.). ورغم انه غزا العديد من الممالك لكنه لم يستطع إخضاع إقليم كالينجا الساحلي الشرقي. وبقيت تلك المهمة على عاتق حفيده “آشوكا” (حكم لسنوات 265-232 ق.م)؛ الذي نجح باحتلال كالينجا بعد حرب شرسة تركته ممزقًا بسبب إراقة الدماء والخسائر في الأرواح. أصبح آشوكا بعدها بوذيا متفانيا وتبنى الأسد ليكون رمزا لحقبة سلام جديدة. يشرح عالم الآثار “فيناي كومار” بجامعة باناراس تحليله قائلا: “استخدم آشوكا الأسد كرمز ديني لأن بوذا كان ينتمي إلى عشيرة “شاكيا”،(أو الأسد)، وكان الإمبراطور من أتباعه المخلصين. لكنه أراد ايضا ايصال رسالة مفادها أنه حاكم عظيم لمملكته، مثل الأسد الذي يحكم الغابة. وهنا كان الاسد الرمز يمثل صفات الملكية والقيادة”.
حكم آشوكا مملكته بمبادئ الحقيقة الكونية والقانون الإلهي (أو الدارما- dharma) والذي فهمه على اساس أنه يشمل خصائص مثل الصدق والرحمة والإحسان واللاعنف واللطف تجاه الحيوانات. ونشر رسالته خلال سنوات حكمه بإقامة أعمدة حجرية تحمل نقوشا تعبر عن رؤيته في مواقع عبر الإمبراطورية. إكتشف الآثاريون نماذج متنوعة من تلك الاعمدة، كان من أهمها المكتشفة في “سارناث”؛ الموقع المقدس في شمال الهند، حيث كان بوذا في عام 528 ق. م. يعلم أتباعه الأوائل. تعلو العمود أربعة أسود يجلسون ظهرا لظهر فوق عجلة مزينة بعجلات وحيوانات أخرى. يقول كومار: “تشير العجلة إلى عجلة القانون في البوذية، وتمثل اشعاعاتها الاثنين والثلاثون الصفات الجسدية لبوذا. يحتل الاسد موقعه بين رموز اخرى من حياة بوذا؛ من ولادته الى وقت تحقيق منجزاته المتعددة”.
عن مجلة “آركيولوجي”