جدل الكتابة في اللهجات العاميَّة والفصحى

ثقافة 2023/09/13
...

  صلاح حسن السيلاوي 

أثار الروائي العراقي علي بدر عبر مقال نشره على صفحته في الفيس بوك جدلا عن استخدام الأدباء للهجات العامية واللغة العربيَّة الفصحى، المقال الذي تحدث فيه بدر عن بدايات الدعوة لاستخدام تلك اللهجات بدلا عن الفصحى وصدى تلك الدعوة أثار ردود أفعال متباينة لدى عدد من الأدباء في صفحاتهم الشخصيّة وعبر الرد على المنشور ذاته.  وكان بدر قد لفت في منشوره إلى أن أول دعوة مرموقة طرحها مثقف عربي لاستبدال الفصحى بالعاميّة كانت لفارس نمر في العام 1888 وهو صحفي لبناني ولد عام 1856، مشيرا إلى أن نمر أطلق تلك الدعوة على اثر صدور كتاب المستشرق الألماني (فيللهم سبيتا) عن (اللهجات المصرية) داعيا الى ترك الفصحى والكتابة باللاتينيّة، مؤكدا تأييد الصحفي والأديب اللبناني يعقوب صروف لنمر بدعوته ومهاجمة رشيد رضا لها بمقالتين مشهورتين.

وبيّنَ بدر أنَّ الاربعينيات من القرن الماضي شهدت هذا الجدل عبر انخراط عبد العزيز فهمي بنقاش مماثل في القاهرة أيده أنيس فريحة في لبنان، ونيقولا يوسف وحمدي ابراهيم الملا. بعدها جاءت الدعوة الفينيقيّة من مي غصن وسعيد عقل.

تحدث بعدها بدر عن  بروز نقاش حاد بين أعضاء مجلة شعر حيث تفرد يوسف الخال بالدعوة العملية للعامية وكتب عنها مقالات نقديَّة، وعارضها أدونيس وشوقي أبو شقرا، وانفرط عقد مجلة شعر لهذا السبب. على حد تعبيره. ورأى الكاتب بمقاله أن بعض هذه الدعوات كانت أيديولوجية تخص مكانة الأقليات داخل الجماعة العربية المسلمة ولكن بعضها الآخر كان نقاشات عقلية ثقافية محضة، امتدت لسنوات، مؤكدا أنّ المضحك في الأمر أن تلك النقاشات أديرت بالعربية الفصحى وليست بالعامية. وخلص بدر إلى  فشل كل هذه الحركات والدعوات، لا لأسباب قومية كما يدعي القوميون، ولا لأسباب دينية كما يدعي الدينيون، إنما لديناميكية وحيوية اللغة العربيّة الفصحى. وأن المقاربة مع اللاتينية كلغة دينيّة وانحطاطها الى اللهجات الرومانية مثل الفرنسية والأسبانية والإيطالية مقاربة خاطئة. لأنَّ اللاتينية لغة دينية توقفت عند حدود البحث في الكتب المقدسة، ويرى الكاتب أنَّ اللغة العربية لغة حضارة كاملة لم ولن تكون لغة دينية وأن نزل بها القرآن. كتب بها مسيحيون أناشيدهم الطقسيّة، وكتب بها أحبار اليهود قصصهم الروحيَّة. جمعت شعراء الخمرة والمتصوفة والزنادقة والملعونيين بالحرف نفسه، وخلفت آلاف المخطوطات في الادب الايروتيكي كما عدها صلاح الدين المنجد. وأن العامية قد عاشت إلى جوارها ولم تقهرها ولم تحل محلها، طوال تاريخها استخدمت العامية استخدامات عملية وعاطفية وأعانت الفصحى ودخلت عليها حتى في الآداب. لكنها لم تقهرها أو تحل محلها. 


الفصحى برعاية الدين

المدوّن فاروق محمد رأى في ردّه على مقال بدر أن العربيّة الفصحى لم تكن لتدوم لولا رعاية المؤسسة الدينية (أي السلطة) وهذه قضية مهمة يجب عدم العبور عليها اطلاقا، على حد تعبيره.

مشيرًا إلى أن المشكلة تكمن في أن كل الناطقين بالفصحى يفكرون بالعامية ويكتبون بالفصحى وهذه ازدواجية معطلة للابداع برأيه واللهجات العامية (عكس ما يشاع) ليست محصورة بالبيئة المحلية إذا ما توفر لها جانب النشر والدعم... وضرب محمد مثالا على ذلك بشيوع أغاني فيروز في المغرب واللهجة المصرية المفهومة في العراق حتى عند الاكراد الذين لا يحسنون العربية الفصحى.

معتقدا بأنّ مصير العربية وعبر مراجعة تاريخ اللغات التي انزلت أو كتبت بها الأديان المختلفة التي نتساءل عن مصيرها يتضح بعد زوال الأنظمة الحاكمة وسبب تحديد دورها في المجالات الدينية وحسب. فيما يعتقد الشاعر مهدي القريشي أنَّ الكتابة باللهجة الدارجة لا تنعش الادب وانما تحصره في جغرافيات محددة باستثناء اللهجة المصريّة التي اصبحت شائعة بسبب شيوع السينما المصرية، وفي حديثه عن اضمحلال اللغات او موتها فإنّه يرى أن اللغة العربية تنمو ببطء وقاموسها صغير قياساً بالفرنسية وغيرها، وقد جوبه هذا الرأي بردود أخرى تذهب الى سعة قاموس اللغة العربية وتجاوزه على كثير من قواميس اللغات الاخرى بما فيها الفرنسية التي تعد العربية أعمق وأهم منها. المدوّنة ميسون أبو الحب تجد أن اللغة العربية لغة أدب يمكن التعبير بها عن الأفكار، وكل ما يجول في خاطر المرء. ولكنها قاصرة جدّا عن تلبية متطلبات العلوم والاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة. مبيّنة أنَّ المترجمين الناشطين في هذا المجال يروون الأعاجيب عن هذه المشكلة. ورأت أبو الحب أن الفصحى لا تلبي متطلبات العصر الحديث، وأبسط مثال، على ذلك على حدِّ وصفها كلمة (تريند) التي تعبر عنها العامية بدقة كاملة بكلمة (طشة). التي لا مثيل لها بالفصحى. 

مشيرة إلى أن رجل الشارع وجد مرادفات لكل شيء، وأسماء لكل اداة ومادة يتعامل معها، إلا أنه لا يفهم ما تحدثه به الفصحى. 

وأضافت: أما العلوم والتكنولوجيا فتلك كارثة أعظم. يخترع الغربيون كلمات ومفردات لكل جديد ونحن نعدو خلفهم ولا يمكننا اللحاق بهم للأسف وهنا أيضا يعمد كثيرون الى تطويع الكلمات الأجنبية للعربية اما باستيراد الكلمة كما هي مثل (راوتر) او بتكييفها مثل فعل (يكنك). والحبل عالجرار بالنسبة للعلوم العميقة. مستحيل اللحاق بكل شيء. اما الدول الاخرى فأوروبا لاتينية ويسهل عليها تطويع أي كلمة لخلق اشتقاقات جديدة تغطي المستجدات لأن الأصل لاتيني. وأزيد هنا بالقول ان في العربية اِثني عشر مليون و٣٠٠ ألف مفردة ولا تتجاوز الانكليزية المليون بل أقل بكثير ولكن معظم ما في العربية وحشي ومهجور ولا يفيد في استيعاب الاتجاهات الحالية. حتى أفضل مثقفينا لا يعرف منها غير نسبة ضئيلة فما بالك برجل الشارع. وحاليًا، شئنا أم أبينا مصدر كل العلوم هي الانكليزية لا غير. هذا واقع. ولذلك يُدرّس الطب والهندسة وأغلب العلوم بالانكليزية. 


تصالح في وعي المتلقي 

الكاتب العراقي ياسين غالب تحدث عن استخدام بقية الأمم للفصحى في لغاتها، لافتًا إلى شيوع ذلك في اغلب لغات العالم وعدم اقتصاره على اللغة العربية. مشيرًا إلى عدم وجود فصام بين العربيّة الفصحى وبين وعي المواطن العربي المتلقي، بل ذهب إلى إمكانية أن تكون الفصحى المبسطة مفهومة جيدًا حتى للفرد الكردي في العراق وباقي الأجناس في تشكيلة العالم العربي.   

وفي رأي مقارب لسابقه رأى الشاعر استناد حداد اللهجة المحلية لغة دولة واحدة، والعربية الفصحى لغة دول متعددة، لذا فهي الاكثر انتشاراً، ثم تساءل: لماذا يضيع المترجم جهده ليحصره بلهجة دولة واحدة، بينما الجهد نفسه يمكن أن يوسّعه. لذلك اقترح لسد شهية أصحاب اللهجات أن يترجموا النصوص بالفصحى أولًا ثم يمصّروا النصّ او يعرّقوه او يمغرِبوه كما يحدث مع المسرحيات العالمية المترجمة للفصحى ويجري تحويلها شعبيًّا.


فخ الزندقة 

الكاتب عمر الشاهر يجد أن الفصحى فشلت في التكيّف مع تحديات الزمن، فزحفت العامية لتسد النقص، ولولا القرآن، لانحسرت استخدامات الفصحى ونسيها الناس، كما حدث مع الكثير من اللغات واللهجات.ويتفق الشاهر مع علي بدر بأن العربية الفصحى ليست لغة دينية، ولكن كثيرين يصرون على إضفاء طابع القداسة عليها، وهو ما أضر بها كثيرا، وحبسها عن مجاراة العامية في سعة الاستخدام..وقال أيضا: في دراستي للماجستير، اقترح الصديق الدكتور حيدر سعيد أن أدرس شيئا من «نحو العامية البغدادية»، لكن بعض أساتذتنا حذرني من السقوط في «فخ الزندقة»!  

أما الكاتبة والاعلامية سعاد الجزائري فقد روت ظروف كتابتها ونشرها لقصة للأطفال باللهجة العامية العراقية وكيف تحولت الى العامية المصرية فقالت: أتذكر أني كتبت قصة للأطفال بعنوان (النهار المغرور)، وطبعت في دار شهدي التي أشرف عليها يومذاك الروائي والمسرحي المصري رؤوف مسعد، لكنه نشرها بتصرف منه، بالعامية المصرية، يومها انزعجت، لأن العامية المصرية تختلف تماما عن العراقية مثلا، وسنواجه هنا مشكلة اللهجات واختلاف معاني المفردات العامية بين الدول العربية، فما هو عادي باللهجة العراقية يعد معيبًا وأقرب الى الكلام البذيء بلهجة أخرى... في هذا المجال لا بدَّ أن نتذكر ما كان يكتبه ابو كاطع (شمران الياسري) الذي أبدع بكتابته للعامية... 

الدكتور ضياء خضير ذهب إلى عقم وفشل محاولات استخدام العامية كلغة للكتابة، ولكنه يؤمن بسلامة بقائها إلى جانب الفصحى بوصفها لغة شفاهيّة تختلف لهجاتها بين البلدان العربية أو حتى داخل البلد الواحد أحيانا. وأن كثيرا من الفاظ العامية فصيحة نزل بها الاستخدام العامي، وثمة في حالة الضرورة لغة (وسطى) بين العامية والفصحى يمكن استخدامها في الحوارات والشؤون الأخرى.  


جدل جديد بنسخة عراقيَّة 

الكاتبة مريم الناصري تحدثت عن جدل الفصحى والعامية في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي لافتة إلى ابتداع اللبنانيين نشرة الاخبار باللهجة العامية وكيف صارت سنّة عند أغلب سياسييهم أن يتحدثوا بالعامية حتى في الخطابات الرسمية.. مؤكدة على سطحية تلك الظاهرة، وعدم اجتذاب تلك الخطابات لأحد.. حتى أن أحد رؤساء الجمهورية الذي ألقى خطابه الرسمي الأول بالعامية بدا ضعيفا وكأنه يلقي خطاب استقالته!!  

الدكتورة عالية خليل إبراهيم تكلمت عن تفاقم مشكلة اللغة الفصحى واللهجات التي طرحت قبل عقود، لافتة إلى تردي مستوى طلاب الجامعات حالياً، حتى أن ما يقرب من العشرين بالمئة منهم فقط يتمكنون من الكتابة أو الكلام بالعربية الفصحى بشكل صحيح، وأن الأغلبية يفكرون ويكتبون ويتكلمون بالعامية. مبيّنة أن الواقع الثقافي أصبح بحاجة لإعادة الجدال القديم بطبعة عراقية، متساءلة عن هوية الباحث الشجاع الذي يمكنه التصدي أولا للنقاش.


الرجع البعيد مثلًا 

الشاعر خضير النزيل يعتقد أن أهمَّ الابداعات في اللغة سواء أكانت عاميّة أم فصحى، هو إبداع في الرواية، اذا ما توفر لها الكاتب الجيّد الذي يفهم في النسيج الحياتي للقارئ، ويرى النزيل أن الروائي العراقي فؤاد التكرلي في روايته «الرجع البعيد» يشكل تأسيساً لذلك، فيما يجد النزيل الروائي الفرنسي فرناندو سيلين قد مزج بين اللهجة الفرنسيّة المحكيّة ولغتها الفصيحة ليخرج عملًا مذهلًا هو روايته «رحلة في أقاصي الليل»، فافتتح بذلك نصًّا صارت الرواية الفرنسيّة تُصنّف به الى ما قبل فرناندو سيلين وما بعده.وذهب الكاتب إلى عدم وجود روائي عراقي واحد فكر في تطوير لهجته المحليّة، كما فعل مثلًا خوان رولفو في «السهل يحترق» أو حتى في روايته الأكثر محليّة بادرو بارامو، لافتا إلى أن أي شخص وفي أي شارع من شوارع أمريكا اللاتينية يعرف ماركيز جيدا، مشيرا إلى أن هؤلاء كتّاب لا يتملقون لغتهم الاسبانيّة المصطنعة مثلنا، وأن كل اللغات التي نتكلّمها هي لغات مصطنعة، احتجنا إلى استخدامها في معاملاتنا الحياتيّة بعد أن فشلنا في استخدام لهجتنا المحليّة، مؤكدا أنّ سوسير يوضح هذا كاملًا في كتابه المهم «مدخل الى علم اللغة العام».  الشاعر باسم الأنصار يرى أنَّ جميع اللغات فيها مستوى عالٍ ومثقف ونخبوي ومستوى بسيط أيضا ولكن بعض النقاد أوهمونا بأنَّ العرب هم فقط من لديهم لغة فصحى ولهجة عامية..  مؤكدًا امتلاك المجتمعات الغربيّة لمثل هذه الجدليّة حتى أنَّ لغة الرواية والشعر بل وحتى بعض الصحف الرصينة عالية المستوى ونخبويّة وقاموسها اللغوي ثرٍ ومتنوع وصياغة عباراتها مختلفة عن صياغة الناس للعبارات في حواراتهم اليوميّة.. أي أنّ عامة الناس لا تستخدم الكثير من الكلمات التي يستخدمها الروائيون والشعراء والصحفيون.. لافتًا إلى أنَّ الأمر لا يقتصر على العرب فقط.. ثم أيد الأنصار رأي علي بدر بأنَّ اللغة العربيّة الفصحى متطورة ومختلفة من زمن لآخر تماشيًا مع تغييرات الزمن.. حتى أن القاموس اللغوي للشعر العباسي يختلف عن القاموس اللغوي لشعر ما قبل الاسلام الى حدٍّ ما، بسبب تركه لمفردات قديمة لم تعد تناسب عصره وبسبب استخدامه لمفردات جديدة وهذا الحال ينطبق ايضا على شعرنا المعاصر، المختلف صياغة وشكلا ومفردات عن الشعر العباسي بل عن شعر رواد القرن العشرين.. وأضاف قائلا: ما أجمل اللغة العربية من حيث الموسيقى والايقاع الداخلي فيها.. دعوا لنا هذه اللغة الجميلة فلم يبقَ لنا من الأشياء الجميلة إلا القليل وهي منها.


الرواية بمستويين من اللغة 

وكان لعلي بدر مجموعة من الردود على تلك الآراء أقف هنا على بعضها ومنها قوله متسائلًا: هل العامية تلبّي متطلبات العلوم والتكنولوجيا؟، هذه قصّة كان يرددها المترجمون العرب، أن العربيّة قاصرة عن ترجمة العلوم، كانوا يعتقدون أنَّ كلَّ كلمة في اللغة الأجنبية يجب أن تقابلها كلمة في القاموس. هذا غير صحيح، كل مخترع هو ابن لغته، أما اللغات الأخرى فيمكن تضعه نفسه أو تخترع له كلمة.  ومن ردوده أيضا: أنا ناقشت المرحوم فؤاد التكرلي طويلًا بهذا الأمر، وهذه كانت من نقاشاتهم المبكرة حول الاستخدام اللغوي في الرواية، بأنَّ الرواية كانت تكتب بلغة شعرية عالية المستوى ثم أخذت تنخفض شيئا فشيئا حتى الوصول الى مستوى وسيط، هو أقرب من مثال سيلين في الرواية الفرنسيّة. أكثر الروايات العراقيّة والمصريّة والعربيّة اليوم عمومًا يمكنك أن تقول إنّها قريبة لمثال سيلين في التقريب بين مستوى عالٍ من الكتابة ومستوى

شفاهي. 

وهو ما فعله فيما بعد المرحوم التكرلي بدلًا من جعل الرواية مكتوبة بمستويين من اللغة مستوى السرد بالفصحى والحوار بالعامية كما فعل في رواية «الرجع البعيد» كتب روايته الأخيرة المسرات والأوجاع بمستوى واحد متوسط من اللغة. أما الكلام عن اللغة الاسبانية في اميركا اللاتينية هذا جزء من أساطيرنا عن الآخرين، الاستخدام اللغوي لماركيز معقد حتى بالنسبة للمتكلم بالاسبانية، الكل يعرف ماركيز بسبب الإعلام أما الكل قرأ ماركيز وفهم ماركيز هذا خيال، وكم شخصًا يعرف رولفو؟، اقرأ ما كتبه مترجموه للانكليزية والفرنسية كانوا ملزمين باستخدام مستويات عالية من اللغة لمجاراته في استخداماته الشعرية وتراكيبه المعقدة. اما لغتنا الفصحى غير مصطنعة، فأصبحت هي الأخرى جزءا من حياتنا اليوميّة، الموظف يكتب مطالعته بالفصحى والشرطي يكتب تقريره بالفصحى، وحتى الشخص الذي يسجل في محل في دفتر اليوميّة بالفصحى، هذا نقاشنا بالفصحى فأين التصنع بالأمر؟.