علي فائز
ثمة خلط كبير في استعمال بعض المفاهيم التي تتعلق بالأحداث التي يشهدها العالم العربي على وجه التحديد، من حركات شعبيَّة تبين العلاقة المتوترة بين الانظمة السياسية والجماهير، إلى الحد الذي جعل بعض الكتاب والمحليين وأصحاب الرأي يدمجون أكثر من مفهوم لبيان الأوضاع أو يستخدمون مفهوما بقصد ما دون الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا المفهوم يتناقض مع ما يذهبون إليه، ومن هذه المفاهيم التي يحصل فيها الخلط على سبيل المثال: الاحتجاج الشعبي.
فهناك من يطلق على الحركات الاحتجاجية مفهوم "الثورة" وهناك من يسميها "انتفاضة" أو "هبة" أو "يقظة" أو "حراك جماهيري". الأمر الذي يفتح باب الاستفهام، جراء هذا التداخل المفاهيمي والوصفي، هل هناك مشتركات مع كل ما سبق ذكره؛ لتحطم هذه المشتركات كل الخصوصيات في نهاية المطاف ليبدو اللفظ والمعنى واحدا، أم أن لكل مصطلح مفهومه الخاص والذي يميزه عن باقي المفاهيم.
وبعد أن شهدنا أحداث الربيع العربي والتي ما زلنا نعيش تداعياتها، بادر بعض الباحثين بوضع حدود فاصلة بين هذه المفاهيم للحيلولة دون انتهاك خصوصيتها.
في سياق مفهوم الاحتجاج والذي هو من أكثر المفاهيم التي يحصل فيها الخلط والادماج، وهو كما يصفه الدكتور فارس كمال نظمي في كتابه السلوك الاحتجاجي:" من المفاهيم بالغة التعقيد ومتعدد الأبعاد في بنيته ووظيفته".
فضلًا عن ذلك فإن مفهوم الاحتجاج ومع ما يرافقه من تماثلات وممارسات قد تٌغير، فمن مستوى الاضراب إلى مستوى إشغال الفضاء العمومي، وتجريب العديد من الاشكال الاحتجاجية مثل الوقفات والمسيرات والاعتصامات والاضراب، لذلك فإن إيجاد مفهوم دقيق وموحد للاحتجاج ما زال بعيد المنال حتى الآن، مما أدى إلى إيجاد تعاريف لا نهائية، أسست اختلافها وتناقضاتها احيانًا بناءً على الأطر المعرفية والتوجهات الايديولوجية، وهو ما يفضي بالنهاية إلى ضبابية في الرؤية والتقدير.
يؤكد بعض الباحثين أن مفهوم الحركات الاحتجاجية رأى النور لأول مرة على يد عالم الاجتماع الألماني لورانز فون شتاين، حيث عرف الحركات الاحتجاجية في كتابه "تاريخ الحركات الاجتماعية" في فرنسا مابين 1789-1850 وجاء هذا التعريف كردة فعل على الجهود المبذولة في الثورة الفرنسية من أجل التغيير وبناء المجتمع الجديد، حيث عرف لورانز الحركات الاحتجاجية بأنها " الجهد الملموس والمستمر الذي تبذله جماعة اجتماعية معينة من أجل الوصول إلى هدف أو مجموعة أهداف مشتركة، ويتجه هذا الجهد نحو تعديل أو تغير أو تدعيم موقف اجتماعي قائم، وهي أيضا عمل جماعي يهدف إلى تأسيس نظام جديد للحياة، ووسيلة تسمح بنوع من المشاركة في السياسة.
وهناك من يعرف الاحتجاج الجماهيري باعتباره وسيلة غير مؤسساتية لمحاولة التأثير في السلطة، فيرى (ادريس بنسعيد) إن الحركات الاحتجاجية "متوترة وآنية بطبيعتها باعتبارها ردات فعل على ضغوط أو اكراهات لا تطاق يحضر بدرجة عالية التوتر، والعنف خاصة العنف المضاد، يرتفع فيها صوت الحناجر ويخبو صوت اللغة وبعدها المكتوب". كما يعرف الاحتجاج من منظور الممارسة بكونه "صورة من صور التظلم العلني داخل الفضاء العام، ويكون في العادة جماعيًا من موقف جهة معينة، وكثيرًا ما يكون هذا الموقف هو عدم الاستجابة لمطلب أو مطالب ممارسي الفعل الاحتجاجي لسبب أو لاخر، فيعمد المعنيون بالأمر إلى التجمع من أجل اظهار ردّات فعلهم على موقف تلك الجهة وفي الوقت ذاته الضغط عليها بهذا الأسلوب كما أن صفة الجماعية والعلنية من العناصر المؤثرة في تحديد درجته ومداه"
وثمة مجموعة من الخصائص التي تميز الحركة الاحتجاجية وتضع بينها حدودًا بين الحركات الاجتماعية والمفاهيم ذات الصلة ومن هذه الخصائص:
- العفوية: فهي ممارسات يشترك فيها اعداد كبيرة من الناس دون اتفاق مسبق بينهم، فضلًا عن غياب قائد لهذه الممارسة، فالفاعلون فيها يعملون بصورة تلقائية وعفوية في التعاطي مع الاحداث ومتغيرات الواقع.
-إنها حركات جماهيرية، ينخرط فيها أعضاء المجتمع، للمطالبة بحقوقهم ورفع الظلم عنهم من خلال الاعتراض على أوضاعهم غير المرغوب فيها.
-الجرأة العالية: إذ أن الاعم الاغلب من الحركات الاحتجاجية، لاسيما تلك التي تتشكل في السياق الثوري، تتصدى مباشرة للرجل الأول في الدولة، وتتحداه شخصيًا وتحط من رمزيته، مما يجعل النظام ضعيفًا ويفقد توازنه.
-إيجابية الطبيعة البشرية: فهي واحدة من أبرز الخصائص الدالة على إيجابية الطبيعة البشرية، وحيويتها، فالنزعة إلى الاحتجاج والميل إلى الاعتراض من قبل الفرد على ما يراه ظلمًا أو عدم انصاف يفرض عليه دلالة على تقدم الوعي البشري، ولو لا هذه النزعة لما تمكن الانسان من انجاز التغيرات الاجتماعية الكبيرة والانتقال من مجتمعات الرق إلى دول المواطنة والضمانات والحقوق الاجتماعية.
-حق دستوري: اذ تعد الاحتجاجات حق دستوري، في الأنظمة الديمقراطية، فهي من الحقوق الرئيسية للأفراد، وبناءً على ذلك تمثل ظاهرة الاحتجاج ديمقراطية النظام السياسي وصدق مدعاه.
-السلمية: وهو التحدي الذي خاضته الحركات الاحتجاجية عبر مراحل تاريخية مختلفة، حتى مثل مكسبًا في احداث تغييرات على مستوى السلوك الاحتجاجي، كما أسهم في التغيير التدريجي لمقاربة الدولة للاحتجاج.
-التجرد المذهبي: وهي الخصوصية التي كسبتها الاحتجاجات بعد أحداث الربيع العربي 2011، إذ أصبحت تعبر عن تطلعات الشعب بكافة مكوناته دون تمييز أو اقصاء على أساس العرق أو الدين أو المذهب، حركات احتجاجية ذات أهداف جامعة وليست فئوية.
- الابداع الاحتجاجي: حيث يتم في ظل الحركة الاحتجاجية اللجوء إلى كافة سبل التغيير السلمي، مثل السينما والاغاني، والرسم على الجدران والتي تعد نسقًا احتجاجيًا، واستجابة جمالية للعصف الذهني والعاطفي المطالب بالتغيير بعد الظلم الذي حاق بالمجتمع عبر سني تجربته، حيث يُعبر عن هذه الاعمال الإبداعية وبحدة بالغة من خلال التصريح عن عنف السلطة.
وعطفًا على ما سبق نستشف، أن الحركة الاحتجاجية، هي الظاهرة المجتمعية التي بإمكانها احتضان كل سلوك انتفاضي أو تمردي وأبداعي وجمالي، ينشد التغيير، كما أنها من ابلغ المؤثرات الدالة على اختلال البنى لاسيما السياسية والاجتماعية، الامر الذي يؤدي ربما إلى عجز احتوائها، إذا ما غض النظر عن متطلباتها واحتوائها بقوة السلاح الأمر الذي يقف عنده مفهوم الاحتجاج، لنكون إزاء مفهوم الثورة وما تحمله من مضامين وسلوكيات.