علاقة الحبِّ مع النصِّ ومفاتيح القراءة

ثقافة 2023/09/17
...

  محمد صابر عبيد

العلاقة القرائيَّة مع النصِّ تأخذ مجموعة من الصور أهمها صورة الحبّ، الحبّ بمعناه الكامل والشامل والمتشظي على الأشياء كلها، فحين تصل العلاقة بين القارئ والنصّ إلى درجة الحبّ في سياقه المعرفيّ المقترن بحسن الإعداد والوعي، فهذه إشارة بليغة لتوقع قراءة خصبة، فماذا تعني علاقة الحبّ مع النصّ؟، إنه سؤال مشروع في ظل مناقشة القضيّة على هذا النحو الوجدانيّ المفعم بإنسانيته والمرتكز على مرجعيات معرفيّة مناسبة.

أن يحبّ القارئُ النصَّ يعني أن يتحقّق التجاوب المطلوب بينهما على أفضل وجه، ولا سيّما من طرف القارئ وهو يتحرّى تحقيق أعلى درجات التفاهم والألفة مع فضاء النصّ، على نحو يُتاح له اكتشاف السبل الكفيلة بولوج طبقات النصّ وزواياه وبطاناته وظلاله، في سياق قدرة الحبّ على تمثّلِ أرضِ النصِّ جيّداً، والسعي إلى حرثها والتنقيب فيها من أجل الكشف عن كنوز النصّ ومعادنه الثمينة.

لا يمكن مطلقاً التعامل القرائيّ على هذا المستوى من القراءة الفاعلة المُنتِجة من دون تحقّق قدر معيّن من الحبّ عند القارئ، ولا بدَّ أن يكون هذا الحبّ للنصّ قائماً على فعاليّةِ طاقةٍ خلّاقةٍ من خبرةٍ قرائيّةٍ عاليةِ المستوى، في سبيل أن تكون فرصة الحبّ عاملاً من عوامل بلوغ مرحلة التفاعل الصميميّ المُنتِج بين فعل القراءة ومساحة النصّ. فالحبّ المجرّد من ظهيرٍ معرفيٍّ وإعدادٍ علميٍّ متخصّصٍ لا يكفي لولوج النصّ ولوجاً قرائيّاً يتحرّى النقد، لأنّ المرحلة الثانية من مراحل القراءة هي مرحلة كتابة النصّ النقديّ التي تحتاج إلى خبرة وممارسة ومعرفة وموهبة ووعي ورؤية ومنهج، تتشابك كلّها في سياق واحد مع الحبّ لتكون قادرة على الصوغ والإنتاج.

علاقة الحبّ مع النصّ تتدرّج بحسب مظاهر الإعداد المعرفيّ الأخرى وتتناسب معها، إذ كلّما زاد الوعي المعرفيّ للناقد مقترناً بالإعداد فإنّه ينفتح على فكرة الحبّ أكثر من أجل استدعائها وشحنها بقيمة العمل النقديّ إجرائياً، وحين يُنظرُ إلى الدراسات النقديّة الحديثة سلبياً وتُتّهمُ باليباسِ والانغلاقِ والخشونةِ فإنّ ذلك يعود بالدرجة الأساس إلى فقدان الحبّ في طريقة القراءة، وليس من السهل إتقان قوّة استحضار الحبّ في السياق القرائيّ بمعيّة الإعداد والوعي المعرفيّين، فهو بحاجة ماسّة إلى وجود كمّية كبيرة منه قائمة في الذات القارئة، وطاقة مرنة على تمثيله قرائياً، وإدراك فعاليّة تزاوجه مع الأدوات العاملة في الميدان.

فالقارئ الكبير هو محبّ كبيرٌ ضرورةً، ومن دون هذه المعادلة تبقى القراءة ناقصة، لا تصل إلى مقصديّاتها بسهولة ويسرٍ وطمأنينة، ولا تحقّق وظائفها على النحو المرجو، لأنّها بافتقارها للحبّ ستفقد الكثير من قدراتها في بلوغ استجابة المتلقّي، وهو يسعى إلى الاستمتاع بالنصّ النقديّ (القرائيّ)، ومن ثمّ التواصل مع النصّ الإبداعيّ المنقود في آن، ولعلّ هذه الفعالية المزدوجة في تلقّي نصّينِ داخل ممارسة قرائية واحدة (نقديّة وإبداعيّة) من شأنه أن يضاعف من خطورة القراءة النقديّة، ويجعلها قراءة مركّبة تتطلّع إلى أهداف

شتّى.

هل بوسعنا الحديث عن مفاتيح إجرائيّة مُعيّنة وخاصّة للقراءة يمكن أن تأخذ بيد القارئ نحو قراءة أمثل على صعيد الوقت والمتعة والفائدة؟ لا شكّ في أنّ هذا السؤال يمكن أن ينطوي على مقاربات كثيرة يتعلّق أكثرها بنوع القارئ، وطبيعته، ورؤيته، ومقصديّته من فعل القراءة، فثمّة قارئ حتى لو قدمّت له شبكة مفاتيح قرائيّة فإنّه لن ينجح في الوصول إلى القراءة المرجوّة، لأنّه لا يتحرّى من قراءته بلوغ هذا الهدف، وثمّة قارئ يسعى إلى جهده الخاصّ في الكشف عن هذه المفاتيح لتكون خاصّة به لا يشاركه فيها أحد، ولأنّ المزاج يتدخّل في ستراتيجية القراءة مهما كانت عميقة وتخصّصيّة فإنّ الصفة الفرديّة لفكرة المفتاح القرائيّ تظلّ حاضرة وفاعلة.

 وعلى الرغم من أنّ هذه الفرديّة تتنكّب دائماً رؤية ذاتيّة تعكس تجربة القارئ الفرد وتمثّل حسّاسيّته النوعيّة الخاصّة، غير أنّها تصلح في جوانب منها أن تعمّم ويفيد منها من يبحث عن سبل لإدراك طريق القراءة المثاليّة التي تصل به إلى المبتغى، فالقارئ الفرد هنا ليس قارئاً عاديّاً حتى لا يمكن الإفادة من تجربته في القراءة الذاتيّة بنسقها الفرديّ الأُحاديّ، بل هو قارئ خاصّ في حالته القرائيّة الفرديّة وقارئ عامّ في الصورة العامة للقراءة، لأنّ تجربة القراءة هنا ستكون حتماً ثريّة وعميقة وموجبة على نحو يمكن أن تمثّل فيه قياساً يفيد منه الآخرون، وينظرون بعمق إلى الطريقة والوسيلة والمنهج كي يتعلّموا ويضيفوا إلى تجربتهم الخاصّة. 

إذ بما أنّ الكتابة في الأساس هي نوع من التجربة الخاصّة في حقل استثنائيّ ونوعيّ من التجارب الإنسانيّة الخلّاقة، فإنّ القارئ في النهاية هو الفاعل المُنتِج لهذه التجربة، وهو يعكس فيها خبرته وثقافته ورؤيته ومزاجه وتطلّعه وحسّاسيّته، على نحو يضع في المقروء جزءاً من سيرته الثقافيّة والرؤيويّة (المرجعيّة والآنيّة)، حين تتحوّل القراءة في هذا السبيل إلى نصّ (نقديّ) قابل للقراءة من طرف المتلقين.

هذا القارئ النوعيّ وهو يقرأ النص الأدبيّ قراءة نقديّة تسهم في إنتاج نصّ نقديّ موازٍ للنصّ الإبداعيّ، إنّما يتحرّى العمل في صنع ثقافة جديدة في مجتمع التلقّي، وما على المتلقّي سوى التأمّل العميق والدقيق في قراءة القارئ كي يتعلّم منها كيفية العثور على مفاتيح القراءة، ولا يتأتى ذلك إلّا في سياق تمثّلٍ وافٍ للطريقة والمنهجيّة التي يمارسها القارئ الناقد وهو يقارب النصّ، بمعنى أنّ المفاتيح القرائيّة تُكتشَفُ ولا تُعلّم على نحو مدرسيّ أكاديميّ، وكلّما زادت ثقافة المتلقّي ورغبته في الكشف عن المفاتيح أسهم ذلك كثيراً وعميقاً في بلوغه هذا الهدف.