في استحالة معرفة أنفسنا والعالم

ثقافة 2023/09/20
...

أحمد عبد الحسين


في كل بحث يجريه الإنسان، أكان بحثاً في العلوم الطبيعية أو الإنسانية، فإنه في الحقيقة لا يلتقي إلا بنفسه.
يقف إزاء موضوعه ويستغرقه دراسة وفهماً وفي خاطره أن انشغاله بالموضوع سيجعله “موضوعياً” لكنّ محصلة جهده كلّها ستكون نقل هذا الموضوع إلى أفقه الخاص، إلى محددات فهمه ومنتهى إدراكه لنكتشف في آخر الأمر أن ما نلاحظه ونتابعه ونبحثه ليس العالم مجرداً بل العالم الذي جرى تسليمه لاستجوابنا نحن.
الموضوعية بكلمة واحدة مهمة مستحيلة، لأنّ الشيء المرصود غير مقدّر له أن يُفهم أو يُعبَّر عنه إلا بالعدّة العلمية والثقافية واللغوية للراصد نفسه، فهو يدور في أبهاء ممكناته مهما ادّعى التجرّد. إنه أمر يتعلّق بتركيب الذهن البشريّ المصمم للاستيلاء على موضوعاته وضمها إلى مقتنياته والتعاطي معها بوصفها ممتلكات داخلية لا مواضيع خارجية. وقد رأى أبو حامد الغزالي قبل ألف سنة تقريباً ذلك الأمر فنفض يديه من إمكانية أن يكون المرء موضوعياً فقال جملته العميقة “كلّ معروف يدخل تحت سلطة العارف واستيلائه”.
فيرنر هايزنبيرغ أشهر فيزيائيي القرن العشرين بعد آينشتاين كان في كل كتبه وحواراته ومحاضراته يدعو العلماء إلى التواضع أمام هذه الحقيقة التي تتلخص بعدم وجود حقيقة يمكننا مراقبتها والنصّ عليها من دون استدعاء الذات الإنسانية الراصدة الفاعلة التي هي ملتقى لرياح شتى من بينها رياح الأهواء وخداع النفس والإصرار على المتجذر في النفس حتى لو كان مخالفاً للعيان، ورياح الافتقار إلى أدواتٍ قادرة على رصد العالم من دون أن يكون منشؤها نفسياً، كتب: “كل أداةٍ فيها روح صانعها” وهي عبارة تشبه عبارة الغزاليّ تشابها يكاد يصل حدّ التطابق.
بيّن هازينبيرغ أنّ ما نسميه بالعلوم الطبيعية قد تكون “أقلّ طبيعية” مما نحسب، فنحن في نظره لا نلاحظ الطبيعة في حدّ ذاتها، إنما نلاحظ وندرس فقط وفقط جانب الطبيعة الذي يمكن أن يُكشف لطريقتنا في البحث. ويضرب على ذلك مثلاً البحث في الذرّة، يكتب “نحن لسنا قادرين على وصف بنية الذرة. أمر مستحيل أن ننشئ كلاماً عن وصف البنية الذريّة لأننا لا نمتلك اللغة لذلك”. ويصف الفارق بين المعادلات الرياضية التي تقعّد الفهم الذريّ وبين التعبير عنها لغوياً كملّاح تحطمت سفينته في بلادٍ لا يعرف عنها وعن لغة وعادات أهلها شيئاً.
ولهذا لجأ هازينبيرغ إلى دعوة العلماء للتخفيف من غلواء العلموية وكتب ما مؤداه أنّ الأساس هو اشتباك الإنسان في حوار متواصل مع عالمه، وما العلم إلا جزء من هذا الحوار الذي تدخل فيه صنوف معارف أخرى لا يجب النظر إليها بازدراء العلمويين العارفين بكل شيء. في حوارنا مع العالم تلتقينا الفلسفة دائماً في كل منعطف، لكنّ الفلسفة بحسب هازنبيرغ “تقف في الباب دائماً، على العتبة الفاصلة بين العلم والشعر”.
الأمر ذاته يقال بشكل أوضح عن الدين. معرفتنا بالله غير مهيأ لها أن تكون موضوعية أبداً، بدلالة أن ما نتصوّره عنه محدود بحدودنا مقدّر بقدرنا. في جملة بليغة لجعفر بن محمد الصادق “كل ما توهمتموه عن الله مخلوق منكم مردود إليكم” ويزيد توضيحاً “لو أن النملة تخيلت ربّها لتخيلت له سلاميتين”، والسلاميتان هما الشعرتان اللتان في رأس النملة.
معرفة العالم، مثلها مثل معرفة الله، أمر في أفق المحال. وإنّ كلّ ما نعبّر عنه ونقوله ونكتبه إنما نكتبه ونقوله لأنّه بمقدورنا وفي وسعنا. فما لا يعبّر عنه ينبغي أن يسكت عنه بتعبير فيتغنشتاين. أو بالتعبير الأبلغ للنفري “معرفة لا جهل فيها لا تبدو”. وإنما تبدو معارفنا بمقدار ما فيها من جهل هو جهلنا الخاصّ الذي نحمله معنا أبداً في قراءتنا للعالم.