{الاستيقاظ في الصمت}.. تقنيَّة الومضة التنويريَّة والرهان على تجلّياتها الإشراقيَّة

ثقافة 2023/09/25
...

  عدنان حسين أحمد

 ثمة أفلام "سهلة ممتنعة" يمكن أن تجاريها وتتفاعل معها ولكن يصعب أن تأتي بمثلها. فهي تستجمع قوتها الشكليَّة والمضمونية، وتؤجل ومضتها السحرية حتى نهاية القصة السينمائية، ثم تلتمع في مخيّلة المتلقي وتعلق بذاكرته البصرية ولا تغادرها إلا لماما. وفيلم "الاستيقاظ في الصمت" للمخرج الإيراني دانييل أسدي فائزي، والمخرجة الأوكرانية ميلا زلوكتنكو اللذين درسا في قسم الأفلام الوثائقية بجامعة التلفزيون والسينما في ميونخ وتعاونا في إنجاز عددٍ من الأفلام من بينها "غياب المشمش"، و"نظارات الأوپرا" و"أرالكوم" التي وجدت طريقها إلى مهرجانات عالمية. أما فيلم "الاستيقاظ في الصمت" فقد احتفت باستقباله خمسة مهرجانات سينمائيَّة دولية من بينها "برلين"، و"ميونخ "، و"دكيّودَيز "، التي نال فيها استحسان الجمهور والنقاد على حدٍ سواء.

ينطوي هذا الفيلم رغم قِصره على ثيمات متعددة من بينها الطفولة، والحرب، واللاجئين، وعسكرة البلاد وما إلى ذلك من معطياتٍ وأفكارٍ صاغها المخرجان بطريقةٍ ذكيَّة يتشابك فيها تاريخ الأطفال الأوكرانيين، الذين لجؤوا في يوم صيفي ساخن إلى ثُكنةٍ عسكريَّةٍ ألمانيَّة سابقة تُدعى الـ "فيرماخت" واتخذوا منها ملجأً آمنًا يَقيهم شرور القطعات العسكرية الروسية، التي اجتاحت القسم الشرقي من أوكرانيا واندفعت صوب العاصمة كييف وسبّبت في هجرة الملايين من الأطفال والنساء والمرضى المُسنّين من كلا الجنسين إلى البلدان الأوروبية، ومن بينها ألمانيا التي وفرت لهم ملاذًا آمنًا، وحياةً كريمة، ولم تدخّر وسعًا لفتح الثُكنات التي بناها "النازيون"، وتحوّلها إلى مساكن آمنة تحتوي حتى الآن على رموزٍ وآثارٍ عسكريَّة تنتمي إلى الماضي البعيد نسبيًا، لكن الأطفال اللاجئين يربطونها بتجاربهم الراهنة ويتطلعون إلى مستقبل آمن يخلو من دويّ القنابل، وأزيز الرصاص، واللجوء إلى ثُكنة نازية، ربما كانت بعض غرفها مكانًا لقتل الضحايا بالغازات السامة، أو بإحدى وسائل التعذيب المتعارف عليها في تلك الحقبة السوداء. ولا بدّ أن تنشطر ذاكرة المتلقي الحاذق، الذي يشاهد هذا الفيلم إلى شطرين متساويين؛ يضم الأول أعلى درجات القسوة والوحشية، ويحتفي الثاني بأطفال لاجئين هم أقرب إلى الملائكة في رقّتهم ووداعتهم وهم يركبون الدراجات الهوائيَّة ويحوكون أكاليل الزهور من المروج التي تطوّقهم من الجهات الأربع، التي تكتظ بالخضرة والجمال الآسر الخلاب. وثمة رصيف طويل كتب الأطفال عليه جملة صريحة مفادها: "بوتين، توقف عن قتل الناس" وهي تختصر، من دون شك، مِحن الحروب وأهوالها، التي تتكلم بلسانٍ فصيح يدركه جميع الناس الذين يعيشون على وجه البسيطة.

لم يشأ المُخرجان أن يؤدلجا الفيلم لكيلا يُضحيّا باللمسات الفنية التي يراهنان عليها، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى القبو أو الملجأ أو الدور التحتاني، لكي يصنعا من عمق المأساة مادة للفكاهة والاسترخاء، فالأطفال الذين يجب أن يختبئوا في هذه الأماكن عند هجوم الطائرات المقاتلة، كانوا يهرعون إلى أكوام القش ويندّسون تحتها وحينما تنتهي الغارة الجوية يخرجون وهم يضحكون من أنفسهم على الملاذ الحصين الذين اختاروه لأنفسهم البريئة. أمّا الآباء الذين يرابطون في جبهات القتال ويتصلون بأسرهم التي انتشرت في القارة الأوروبية تحديدًا، فهم يتحدثون بواقعية عن قصف الطائرات ودويّ المدافع ولا يطلبون من أطفالهم سوى الاستماع إلى أمهاتهم وجداتهم، لكي يخففوا عنهنّ عناء الغربة والنأي عن الوطن الذي يسكن في تلافيف الذاكرة وحدقات العيون. فثمة طفلة اشتاقت لرؤية روضة الأطفال وطلبت من أبيها أن يأخذها بسيارته إلى المكان، الذي احتضن ذكرياتها الأولى لكنه يختلق ذرائع شتى ليُؤجل هذه الرغبة الطفولية الجامحة، التي لا تستوعب ظروف الحرب واشتراطاتها الشرسة. وحينما تسأل الطفلة ذاتها عن آلينا وياسينيا يخبرهما الأب بأنهما مشمولتان بالخدمة العسكرية كطبيبتين يحتاج إليهما الوطن هذا الظرف العصيب. ثم ينقلنا المُخرجان إلى الطبيعة الساحرة حيث يصطاد الأطفال الفراشات، ويتسلقون الأشجار، ويتناولون حبّات الكرز ويعقدون المقارنة بين الكرز الألماني والأوكراني، ولا غرابة في أن يروا كرز بلادهم أحلى وأجمل من أي كرز آخرَ في العالم.

يعوِّل المُخرجان على الجانب الرمزي في هذا الفيلم، فحينما تقفز ناتاشا على سور الحديقة فإنها تصل إلى "فضاء الحرية"، وعندما تشمّ الزهور التي جمعتها من المرج المحيط بالثُكنة العسكرية، فإنها تستعيد الزهور التي تكتظ بها حدائق بيتها في كييف التي تستقبل صواريخ الموت والدمار في كل يوم تقريبًا. لا بد من الإشارة إلى أهمية "الحركة الدائريَّة" ورمزيتها في هذا الفيلم، فالطفل الذي يقود الدراجة ويدور في مكانٍ واحدٍ أو الطفلة التي تجلس في الكرسي الدوّار وتدور بسرعة فائقة، توحي لنا من دون شكّ بأنها تتحرك في دوّامة ثابتة تنعدم فيها الحركة إلى الأمام أو الخلف، وليس لديها الخيار في الذهاب يمينًا أو شمالاً، وكأنها مُرتَهنة بهذه الحركة الدائرية التي تشبه حركة اللاجئ الأوكراني المُرتهن إلى هذه الثُكنة التي بناها "النازيون"، وصارت ملاذًا للطفولة الهاربة من ويلات الحرب الروسية الضروس. جدير ذكره بأنّ أفلام دانييل وميلا المشتركة قد فازت بجوائز عديدة من بينها جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان" شنز دو ريل"، وجائزة "الحمامة الذهبية" في مهرجان لايبزك الوثائقي.