ثقافة القهر

ثقافة 2023/10/02
...

 عبد الغفار العطوي

ما هو التهميش؟، ومن هم المهمشون؟، وهل ثمة علاقة له بثقافة القهر؟، سيتبادر لأذهاننا في أول الأمر مفهوم التهميش بمعنى الاستبعاد، ليأخذ منحى سياسياً ويتلبّس سمة اقتصادية وحراكاً اجتماعياً، ويتمركز في ذلك بالإطار المفهومي للاقتصاد السياسي المتعارف عليه، كما سنقرأ في كتاب (التهميش والمهمشون) الذي يتناول نماذج لمصطلح الهامشيّة أيضاً في مصر وتونس والشرق الأوسط، وهو من تحرير حبيب عائب وراي بوش، وكذلك ظهور مفهوم التهميش عقب الحراك الاجتماعي الشرق الأوسطي، الذي اجتاح المنطقة العربية بعد أكثر من قرن كامل تقريباً (1930 - 2010) قادماً من الغرب، ليستعرض هذا المصدر في الدراسات الاجتماعية المحدثة في هذا المجال أثر بلاغة الجمهور العربي مفسحاً الساحة لمتغيرات جينالوجية في السلطة، ونشوء (البلاغة الثائرة) التي مثلت في جموحها الثقافي والفكري خطاب الربيع العربي الذي انتشر في المنطقة العربية، وأسهم في عناصر تشكله ووظائف تأثيره في لفت الانتباه لاحقاً إلى المفاهيم التي أهملتها السلطة آنذاك، بل مارست ثقافة القهر ضد التجمعات المهملة المهمشة، ومحاولاتها في الاحتواء، ووجدت طريقها إلى التجلي في المشروعات التي نددت بمفهوم التهميش (الكتاب من اعداد وتقديم د. سعيد العوادي كمثال حي وصادم على إشكالية ثقافة الفقر في المنطقة، وقيام مفهوم التهميش ومصطلح الهامشية وعلاقة كل ذلك بمساره (الهامشية والحداثة، الهامشية والرأسمالية وثقافة الفقر  الشائعة في الأوساط الفقيرة من المهاجرين المسلمين والأفارقة في مدن أوربا) ثم انتقالهما، كنمطين قهريين إلى أرجاء العالم مع بروز صفة (الإنسان الهامشي) في إشكالية الانتقال الثقافي بين الريفية والحضرية، والجاليات والتجمعات السكانية الفقيرة المهاجرة في الدول الصناعية
الكبرى.
 لكن ما أود قوله هو أنّ التهميش، لا ينحصر في هذا السياق السسيو جغرافي، إذ يجب علينا ألا نقف عند هذا الإطار، فالتهميش مفهوم فضفاض يبتدئ كإشكالية سياسية، وبعدها تحدث التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والأخلاقية في أعقابه، إلا أنّه يعمل على  تعيين فئة أو فئات يطلق عليها بالهامشية، التي راحت تتسع رقعتها نتيجة الأزمات العالمية الإنسانية، ومعها يزداد خطاب القهر، والهامشية كمصطلح نعم يميز بين جماعتين حول مفهوم المركز، حيث يكون المهمشون خارج المركز وجماعة الاتجاه السائد في داخل المركز، ليقر بأن أولئك من جماعة الاتجاه السائد هم الذين بحوزتهم
السلطة.
وفي السنوات الأخيرة ظهر الاهتمام  بفكرة  الهامشية في حقول معرفية مؤثرة كعلم النفس والنقد الأدبي والدراسات الثقافية والدراسات المدينية والاقتصاد السياسي  ودراسات تنمية المجتمع، ويعين مصطلح الهامشية في كل هذه الحقول على مستوى سلبي، وبمعانٍ سلبية، وكتصنيف اجتماعي يعتبر أكثر تعقيداً من مجرد اسم، لدرجة لا يمكننا إضفاء صبغة الاستبعاد عليه، ونستطيع تعميم مصطلح الهامشية على من لا يملكون تكاليف الحياة الاعتيادية، فنسميهم بالهامشيين أو بالمهمشين، ليظهر أن اطلاق تسمية المهمشين على الذين فقدوا مكانتهم، وباتوا في ضعف محتاجين للدعم بشتى ألوان المساعدات، عن طريق طرح مساحة واسعة لمعايير بديلة، وحياة بديلة، لنفهم  من النظرة المفهوميَّة للمصطلح أنه لا تتم الإشارة إلى أن لفظ الهامشيين لا يعني بما يخص طبقة الفقراء والطبقة العامة، إذ يمس أناساً ميسوري الحال.
ولعلَّ الدراسات المدينيَّة في الولايات المتحدة التي برزت في أوائل القرن العشرين بداية التفكير بها بجديَّة بعد تأثيرها في القارة الاوربية في القرن التاسع عشر، فقد قامت بمناقشة الهامشية من خلال ما أحدثته من ردود أفعال، حينما أصبحت الهامشية إحدى المفاهيم التي أدخلت في دراسات التنمية، وكان أول من استخدمه (روبرت بارك) و (اوسكار لويس) و (سنونكويست) وغيرهم من الباحثين من مدرسة شيكاغو للاجتماعيين المدينيين، بارك في مقالة له (الهجرة البشرية والإنسان الهامشي) 1928 أوضح أنّ الإنسان الهامشي هو نوع ثقافي هجين ثقافي، إنسان على هامش ثقافتين لم يحد بينهما تداخل أو اندماج كامل، والهامشي مهاجر إلى المدينة، شخص يحتفظ بثقافته الأصلية، ولم يندمج اندماجاً كاملاً في المجتمع الجديد، وتعد هذه العملية ليست سلبية كما يبين مفهوم التهميش، بل هي شيء إيجابي، لأنَّ الإنسان الهامشي هنا هو الشخص الذي  يمتلك  التغيير والابداع في مجتمعه. أما أوسكار لويس فاعتبر من اهم الباحثين في الأنثربولوجيا الحضرية من حيث أسهمت فكرته عن ثقافة الفقر باعتبارها من المصادر التراثية المهمة التي صاغها من منظور ما انتجته الدراسات الاثنوجرافية الميدانية بخصوص الفقراء الحضريين في منطقة البحر الكاريبي، واستطاع مفهوم ثقافة الفقر أن يترك تأثيراً كبيراً في دراسات الفقر الحضري والاسكان المديني على الجانب الاكاديمي. هذه القضية التي احتوتها المحافل الاكاديمية الغربية، ووضعت لها دراسات مطولة برزت في إشكالية تراكم الأزمات التهميشية في الشرق الأوسط، بيد أن الباحثين في هذه المنطقة لم يقدروا على تشخيص الأسباب الحقيقية التي دفعت بالمنطقة إلى الانفجار المدوي على شكل ثورات ضد السلطة المحلية (تونس ومصر)، واطلق عليها بـ (الربيع الشرق أوسطي أو العربي) بعيداً عن تحري الدقة في الدوافع التي تقيّدت في ذاكرة القهر، حينما حرفت الهامشية والتهميشية إلى سجال بين التهميش السياسي والقهر السلطوي، تقول الباحثة بسمة عبد العزيز في مقدمة كتابها (ذاكرة القهر) على مر العصور، تسحق ملايين البشر تحت وطأة  التعذيب، هلكت أبدان وانكسرت أرواح وتداعت إرادة أشخاص كثيرين ما جالت بخواطرهم أبداً فكرة الاستسلام، لكنّهم انحنوا رغماً عنهم أمام سطوة الجلاد وسلطانه. هكذا هي ثقافة القهر التخويف بالجلاد والنظام بدلاً من دراسة الأسباب الوجيهة لمفهوم التهميش، ومن هم المهمشون حقاً؟ لأنَّ تشخيص إشكالية التهميش هي الخطوة الأولى نحو الحداثة التي يرغبها الجميع.