بورخيس أو العرّاف

ثقافة 2023/10/04
...

مارغريت يورسنار

ترجمة: د. عائشة هند الرفاعي

تتضمن أساطير جميع الشعوب تلك الصورة النموذجية الأولى Archetype ، صورة الشاعر الأعمى.
ففي الهند، هناك ڤالميكي، المؤلف الأسطوري للرامايانا، الذي كان يشعر بالنمل يتراكض على رجليه الحافيتين، وكأنه الأجيال الإنسانية التي لا تُحصى. وفي البلاد الإسكندنافية هناك “السكالد”، الشعراء الملحميون الذين كثيراً ما كانوا محرومين  من العيون، كما كان حال الشعراء المرتّلين الإغريق Rapsodes الذين اندمجت هويّاتهم المختلفة، بالنسبة لنا، تحت هوية نموذجهم الأوّلي، هوميروس العظيم، الأعمى.
دعونا نتذكر بورتريه أرسطو الذي رسمه رامبرانت، والموجود في متحف المتروبوليتان في نيويورك، وفيه يضع ذلك الفيلسوف، راصد الطبيعة والمجتمع البشري، أستاذ ومربّي الإسكندر، والرجل ذو العيون السليمة، يضع يده بحزنٍ على رأس تمثال نصفي لهوميروس، المتجوّل الأعمى.
ولنضع بجانب هذه اللوحة، إن أردتم، الصورة الفوتوغرافية التي التقطها فرناندو سكيانّا عام 1983، “يد خورخي بورخيس”، الخارجة من كمّ سترة وقميص من لباس عصرنا، هذه اليد التي تقرأ التمثال النصفي لقيصر، وتطبع في ذاكرة بورخيس، من دون شك، أصغر تجاويف ونتوءات هذا الوجه، كما لا تفعله إلا الأقلية النادرة من زوار المتحف الذين يتمتعون بسلامة عيونهم.
أختار هنا أن أكتب “بورخيس أو العّراف”، ولكن هذه الصيغة ليست عبارة عن مفارقة بسيطة، فنحن نمتلك العالم، وأنفسنا، من خلال حواسنا الخمس؛ والبصر بكل تأكيد واحدة من أكثر الحواس الثلاث التي نعتمد عليها، ومع ذلك، فإن أغلبنا لا يرى نفسه. نعم، الأغلبية العظمى من البشر لا يرون أنفسهم؛ لكن التواضع النبيل جداً لبورخيس يقتضي أن يرى نفسه كما هو؛ فريداً، وعادياً، مع ذلك، كأيٍ منّا. وبينما لا يرى أغلبنا الآخرين، ولا الكون، فإن بورخيس رأى كليهما . بينما نتقاعس نحن عن القيام بما قام به بورخيس عن كسلٍ، أو إجحافٍ، وأحياناً عن رفضٍ واضحٍ وبسيط.
الهندوس محقّون حين يصنفون ملكة الانتباه Ekragata، بين أرقى الصفات الذهنية. لا أقول هنا إنه يكفي للمرء أن يكون ضعيف البصر كبورخيس - وأن يصبح وهو في سن الخمسين، بعد ثماني عمليات، أعمى تماماً - حتى يُطوّر لديه حساً نافذاً للجمال، أو نفوراً من بعض الأشياء؛ أو حتى يتمكن من قياسٍ شبه دقيق لأهمية أو قيمة الأشخاص أو الكائنات، كما يفعله بورخيس في مقالاته النقدية، ()، من دون أن يحطَّ من قدْرٍ أحد أو شيء، أو على العكس، أن يدَعَ إعجابنا يقودنا في طريقٍ خاطئ... لا أظن أن العمى وحده كان سيكفي لتلقين بورخيس البصيرة والحكمة؛ لكن تلكما  الملكتين تنامتا فعلياً مع فقدانه التدريجي للبصر. وبدلاً من أن يكون العمى موضوعًا للحزن الشاعري، كان بالنسبة لبورخيس وسيلة لرؤية العالم - بمعنى أوسع مما تتضمنه بالعادة كلمة رؤية - ولرؤية نفسه مصاباً بفاجعةٍ تنتاب الكثيرين الآخَرين أيضاً.
 وهكذا، أصبح بورخيس، وهو في سن الخمسين، أعمى بشكل نهائي؛ بمعنى، أن القراءة والكتابة أصبحتا مستحيلتين بالنسبة له؛ ولحسن الحظ أو لسوئه، تم تعيينه، في الوقت ذاته، أمينًا لمكتبة بوينس آيرس الوطنية (900 ألف كتاب موجود، وبصر مفقود!).
خلال حديثي مع بورخيس، أوضح لي أن “كونك أعمى لا يعني السواد المأساوي الذي يتخيله المرء”. وأضاف: “ الكل يعتقد أن الأعمى “يرى” اللون الأسود. لكن لا!  فأنا أنهض من سريري وأعود إليه، وسط ضباب  كثيف ومُصفر يغطي كل شيء...آه! كم كنت أتمنى أن أتمكن من تأمل ليلة واحدة جميلة سوداء!”.
وكذلك، قبل بورخيس، كان هناك في بوينس آيرس نفسها، وفي نفس منصب رئيس المكتبة الوطنية، رجل يسمى بول غروساك Paul Groussac، فرنسي المنشأ، ومصاب بذات العلّة. ففي “قصيدة الهِبات”، يذكر بورخيس جَوْلات العميان أو شبه العميان البطيئة الخَفِرة، على طول رفوف الكتب، التي يمكنهم كحدٍ أقصى، أحياناً، تمييز عناوينها.

لا يظنّنّ أحدٌكم أنني أبكي أو أنني أتّهِمُكَ،
يا قدري: المكان صحيح، ويَدُك تقودني.
مصيرٌ بارع، ومكرٌ بديع
يمنحاني، الكتبَ والليل معاً.

تروي أسطورة إغريقية أن ملكاً مات،
من الجوع ومن العطش، بين نوافير الحدائق.
وأنا أذهب بلا هدف، تُتعِب خطواتي المترددة
كُتلتَكِ العمياء المجوّفة، يا مكتبتي.

أمشي ببطء في الظل، وعصاي تتذبذب،
باحثةً عن الحائط، تتَّبع وزرته وتفرُّعاتها.
بالأمس فقط، حين كنت أحلم بأرض الميعاد،
كنت أحلم بمكتبة.

من يريد هذا؟ ليست الصدفة؛
ولكن حسابات غامضة يتوازن بها مصيران.
ففي ماضٍ أصبح قليل الوضوح،
سبقَ أن تلقّى شخص ما،
 الكتب بالآلاف ومعها الظلمات.

بين حينٍ وآخر، يغلبني الرعب،
في مسالك الممرات البطيئة،
فيشتبه لدي الوقت والحدّ،
وأتساءل أأنا غروساك، أم أن غروساك يقلّدني.

ظلٌ واحدٌ، “أنا” مضاعفٌ،
 ما مكاني في هذا الحلم؟
 من هو مؤلف هذه القصيدة؟
بورخيس؟ غروساك؟ ربما ...

مصيرنا ملكُنا؛ وملكيتنا له كاملة، بحيث أنه يصنعنا ويدّمرنا. لكن دَعونا لا ننسى أن هذا المصير مُلكٌ لآخرين أيضاً.

العرّاف.. الرائي.. أود هنا أن أُبِرزَ التناقض بين هاتين الكلمتين اللتين كثيراً ما تختلط معانيهما.
في التعريف الدقيق لكلمة العرّاف، العّراف يرى؛ فإن كان أعمى، فإنه يرى، كبورخيس، بنظرة داخلية، تستند إلى ذكريات ادّخَرَتْها عيونه في الماضي، وربما عززتها أيضاً ذكريات أسلافه الذين سبقوه، التي بإمكانها أن تُغني الرؤية بما يمنحه الذكاء- وليست المخيلة - ورؤية العراف هذه، التي تحررت من القيود البصرية المعتادة، يبدو أنها تمتد في الزمان، كما أنها تمتد في المكان، وبذلك يمكننا تسميتها رؤية لا نهائية، كما يتحدث رجل الدين عن الذكاء اللانهائي. وهنا يقدم بورخيس المثال التالي: “إن الخطوات التي يخطوها الإنسان من يوم ولادته حتى موته، ترسم في الزمن شكلاً لا يمكن تصوره، لكن الذكاء الإلهي يرى هذا الشكل مباشرةً كما نرى نحن شكل المثلث”. وهذا لا يتعلق “بمعنى” الكون، (إذ يقول بورخيس: “ إنه من المشكوك فيه أن يكون للكون معنى”)، فالمسألة هنا ليست مسألة معنى، بل مسألة وجهة نظر. يمكن للمرء أن يتحدث هنا عن الرؤية الفكرية “Intellectualis Visio” ، باللجوء إلى لغة العصور الوسطى، بينما يُفَضَّل أن توصف رؤية الرائي أو المهلوس بأنها رؤية منتشية، “Extatique ينطلق من خلالها الرائي إلى واقع أكثر اكتمالًا وتلوينًا، وكثافةً، من الواقع الذي يعرفه معظم الناس، يبني عليه إبداع الرائي مجموعة من التكوينات الرائعة أو الخطيرة، تتولد من عُقَده الخاصة التي تتخذ طابعاً أسطورياً، أو من التركيب النظري الناتج عمّا تعلّمه أو سمعه من حوله، من عبارات عادية تتحول لديه، إلى أنماط من الوحي.
يبدو لي أن سويدنبورغ Swedenborg ، الذي يضعه بورخيس في مرتبة عالية جدًا، يغرق بشكل شبه مستمر في هذا النوع من الهلوسة، باستثناء مواقف نادرة، في حياته وليس في مؤلفاته، حيث يعطي الانطباع بأنه تمكن من الوصول إلى أوقات استبصار حقيقية Clairvoyance .
كذلك كان بليك Blake، حين لم يصل إلى درجات السمو، ينتشي لفترات طويلة بقصائد جزلية مقدسة.. Rapsodies .
لكن بورخيس في تواضعه الفخور لا يذهب أبدًا إلى أبعد مما رأته عيناه الميتتان، أو ذاكرة عينيه الحيتين، التي يتردد انعكاسها في المرايا التي يخشاها ويهواها في الوقت ذاته. بورخيس لا يخترع ولا يهذي.

والعالم، لم يبقَ ساحراً. لقد تخلوا عنك.
لم يعد لديك حق المشاركة في هذا القمر.
القمر، في ما يخصك، سيبقى صورة الماضي.
...
لكن الشجاعة لا تُعَلِّمُ فن النسيان.
رمزٌ، أو زهرةٌ تحنيها الظهيرة، تمزقانك.
وقد تموت بسبب قيثارة.

لكن طاقة الاحتمال تصبح بسرعة ميزةَ بورخيس، ففي قصة له بعنوان “الآخر”، يجلس الشاعر الأعمى المسنّ، على مقعد أمام نهر الشارلز، ويلتقي طالبا هو بورخيس نفسه في سن الثامنة عشرة، والذي سيصبح يوماً بورخيس المسن (الآخر، نفسه)، فيخاطبه قائلاً: “ اسمع، حين تبلغ سنّي، ستكون قد فقدت البصر بشكل شبه كامل. لن ترى غير اللون الأصفر، وبعض الأضواء والظلال. لا تقلق، فالعمى التدريجي ليس بكارثة، فهو أشبه بمساءٍ طويل ليوم صيفي.”
لكن، في الحقيقة، حين نتذكر أن بورخيس قد صرّح في مواضع أخرى، أنه لم يمر بشيء، على الصعيد الشخصي، بأهمية اكتشافه هارمونية اللغات الأنغلوسكسونية، أو فلسفة شوبنهاور، نُدرك أن خسارة الكتب، كانت بالنسبة لذلك المثقف، بمثابة خسارة العالم.
دعونا نعرف الدرس الذي يستخلصه بورخيس من هذه الخسارة:
“ كل كاتب، كل إنسان، عليه أن يعتبر أن كل ما يمرّ به، ومن جملته الإخفاق، والإهانة، والمصائب، هو أداة، ومادة لفنّه، عليه الاستفادة منها. هذه الأمور وُهبت لنا لكي نُحّولها؛ لكي نجعل من ظروف حياتنا البائسة أموراً خالدة، أو أموراً تطمح إلى الخلود”.

المصدر:  كحاج وكغريب (مقالات)
En Pèlerin et en étranger
(essais) Gallimard 1989