أخضر الإسلام

ثقافة 2023/10/04
...

ميشيل باستورو

ترجمة: عز الدين بوركة

ومن ناحية أخرى، يمكن للمقارنة أن تصير مثمرةً، حينما نأخذ بعين الاعتبار، بشكل خاص، المجتمعات المتجاورة، والحالة هنا الإسلام والغرب المسيحي في قلب العصور الوسطى. وقبل أن نتعمق أكثر في التاريخ الأوروبي للون الأخضر بعد عام 1000 ميلادي، دعونا نوجه النظر بإيجاز، صوب ما هو عليه [هذا اللون] في العالم الإسلامي، الذي يعدّ شاسعا، ممتداً من المغرب إلى آسيا الوسطى وحدود الهند. ولنقتصر على مراكزه العربية الأولية، وذلك في الفترة ما بين القرنين الـ7 م. والـ12 م.: [فترة] “الإسلام في عظمته الأولى”، أخذا بعنوان كتاب شهير1 .
[...] ومثل النص المقدس [...] يتحدث القرآن قليلا عن الألوان. يتعلق الأمر بستة ألوان أساسية، وقعت في 33 موضعا: 11 آية للون الأبيض، و8 للأخضر، و7 للأسود، و5 للأصفر، وواحدة للأحمر وأخرى وحيدة للأزرق2 . بينما الاستعارات والتشبيهات –”لون العسل”، “لون الفجر”3 ... إلخ- قليلة الذكر بالمقارنة مع النص المقدس. واللون الأخضر الذي يهمنا في المقام الأول، يعدّ دائما في القرآن لونا إيجابيا، لون الخضرة والربيع والسماء والجنة. لم يتخذ أبدا الجانب السيئ، مثلما هي الحال بالنسبة للأصفر أو الأسود. فهل يكفي هذا الأمر ليُجعل من الأخضر لونا مقدسا؟ في الأرجح لا يكفي. كان يجب أن يتبع ذلك أمر من متن الحديث يثقف مع النص القرآني ليُمنح للأخضر الأولية على جميع الألوان، ويُجعل منه اللون الديني للإسلام.
يؤكد متن الحديث، العائد إلى القرن الـ7 م، أنه طيلة فترة طويلة من حياة النبي محمد، قد أولى تفضيلا للون الأخضر: أحب ارتداء عمامة خضراء، وكان يلبس في الأعم اللون الأبيض، وقد رُؤي وهو يأتزر إزارا أخضر. وفي الحرب، استعمل عَلَماً تارة لونه أسود وتارة أخضر. والمرويات [عن ذلك] ضعيفة، وأحيانا متباينة، غير أن ذوق النبي تجاه الأخضر تؤكده أخبار الصحابة الذين رافقوه، وهو ما سيتحول إلى حقيقة لا نقاش فيها.
لم يصبح اللون الأخضر، بعد موت الرسول محمد سنة 632 ميلادية، لون الديانة الجديدة، بقدر ما بات لون آل البيت، أو في الأقل أولئك الذي قدموا أنفسهم على أنهم من نسله المباشر، ومن ثم سيتخذ بعدا سياسيا، معارضا بدءا بلون الخلافة الأموية الأبيض، وهي سلالة أسسها أحد صحابة النبي محمد [معاوية بن أبي سفيان] وحكمت من 650 م. إلى 749 م، عاصمتها دمشق، (وفي قرطبة من 756 إلى 1031 م.)، ثم بشكل خاص في ظل العباسيين، الذين حكموا من بغداد بدءا من 750 م إلى 1258 م.. ولاحقا، في القرن العاشر ميلادي تحديدا، سينفصل الفاطميون بالحكم، عن بغداد، مدعين أنهم من نسل فاطمة [بنت الرسول]، محررين أنفسهم من وصاية العباسيين، ليستقروا بمصر وأسسوا القاهرة [عاصمة لهم] واختاروا اللون الأخضر لونا لأسرتهم الحاكمة.
[مما يعني أن] اللون الأخضر، في حوالي عام 1000 م، لم يكن اللون [الرسمي] الديني للإسلام، بل كان لونا عائليا فحسب، [إلا أن] الأمور اختلفت منذ القرن الـ12 الميلادي فصاعدا، إذ شيئا فشيئا بدأ يكتسب الأخضر طابعا مقدسا، وبعد سقوط الفاطميين، لم يعد يمثل لونا سياسيا، متعلقا بسلالة حاكمة بعينها، بل يمثل لونا دينيا، خاصا بالمسلمين ككل.
يتعارض أحيانا وبعنف، كل من أسود العباسيين وأبيض المرابطين ولاحقا أحمر الموحدين، غير أن الأخضر بات لونا وَحْدَوِيّاً fédérateur: يجمع بين كل الشعوب العربية المسلمة. للأمر عدة أسباب، من بينها ما لعلّه يرتبط أساسا بالحملات الصليبية. كان ينبغي أن تتم معارضة اللونين الأبيض والأحمر الطاغيين على راية ولباس الصليبيين، وبالتالي اختيار لون مغاير يوحّد بين المسلمين من إسبانيا وشمال أفريقيا والشرق الأدنى: فكان الأخضر. وهو ما لا يمنع من التفكير في أن نظرة المسيحيين أنفسهم قد لعبت دورا في الدعاية إلى الأخضر في صفوف الخصم. ولعل الصليبيين هم الذين استخرجوا الهلال من مجموعة واسعة من الصور الرمزية التي استخدمها المسلمون، مروجين له وجاعلين منه الشكل الوحيد الذي يعارض [صورة] الصليب، وعلى أساسه ربما ساهموا [أيضا] في الترويج للأخضر في المعسكر المقابل: لون واحد يرمز للخصم. إذ على مرّ التاريخ، وفي حروب الشعارات والرموز، كانت وجهة نظر الآخر دائما هي الحاسمة.
مهما يكن، فمنذ القرن الـ 12 م. غدا اللون الأخضر لونا دينيا للإسلام. بينما في كل مجتمع احتمل اللون الجانب الحسن والجانب السيئ، إلا أن الأخضر في أرض المسلمين ظل دائما محافظا على جانبه الحسن. وهي الحالة الفريدة من نوعها. فقد تعلقت رمزيته بـ[لون] الجنة والسعادة والثراء والماء والسماء والأمل. مما جعل منه لونا مقدسا. وهو ما يفسّر لماذا امتلكت العديد من نسخ القرآن في العصور الوسطى تجليدا أو غلافا أخضر، وهو ما زال قائما إلى يومنا هذا. وبالمثل يرتدي الكثير من الشخصيات الدينية ملابس من هذا اللون. وعلى العكس من ذلك، يختفي اللون الأخضر تدريجيا من السجاد: لا ينبغي الدوس على هذا اللون المبارك.
لم تغيّر الفتوحات والهيمنة التركية شيئا من هذه الأولوية اللونية. [وإن] من الأكيد أنه قد وُجدت ألوان سياسية وسلالية متنوعة نسبيا في الإمبراطورية العثمانية (حتى أن الأزرق ظهر هناك بوصفه لون الأقليات المسيحية)، وكان اللون الأحمر هو لون السلطة المركزية. غير أن الأخضر حافظ على مكانته بعدّه لونا دينيا، وبالتالي اللون الوَحْدَوي. ومن ثم حافظت الأعلام الرسمية المعاصرة على هذه الذاكرة وهذا الرمز في العالم الإسلامي: لا تكاد تقريبا كل [أعلام] الدول [العربية] تخلو من اللون الأخضر، بدءا من عَلَم المملكة العربية السعودية المعتمد عام 1938: أخضر بالكامل تتوسطه زخرفة وحيدة4  [الشهادتان: لا إله إلا الله، محمد رسول الله] وسيف.
المصدر:
Michel Pastoureau, Vert histoire d’une couleur (2013), éd. Seuil, coll. Points-Histoire, Paris, 2017, p. 54-58.