دور التراث في تعزيز الهويَّة الوطنيَّة

آراء 2023/10/04
...

عبد الحليم الرهيمي

تتعدد وتتقارب التعريفات والمقارنات لتعريف ووصف مفهوم التراث، والحضارة أيضاً، ويذهب بعضها إلى القول إن التراث هو روح الحضارة، حسب القواميس العربيَّة، التي تعتبر التراث من أهم المترادفات اللفظية. والتعريف الأكثر تداولاً وشيوعاً هو الذي يعتبر أو يصف التراث، بأنه مجموعة معتقدات وقيّم وآداب وفنون ومعارف وجميع أنشطة الإنسان المادية والمعنوية، وهو ناتج عن تراكم خبرات المجتمع – أي مجتمع – وهو شاهد على تاريخ الأمة وأحوالها.
وعن ربط التراث بالحضارة فإنَّ تعريف التراث الحضاري يعني انتقالًا للسمات الحضارية والثقافية لمجتمعٍ معيّنٍ من جيلٍ إلى جيلٍ عن طريق التعلم والتعليم وهو ما يسمى بالتراث الحضاري أو الثقافي أو الاجتماعي. ولذا يحدد التراث – كمصطلح اجتماعي – بالسمات الحضاريَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة لأي أمة من الأمم.
تلك المفاهيم والتعريفات التي تشير إلى، أو تعبر عن مضامين وتاريخيَّة التراث، هي التي تدعو وتبرر بالتالي طرح السؤال المهم وهو: ما أهمية ودور التراث في المساهمة بخلق وتعزيز وترشيد الهوية الوطنيَّة وأغناء مضمونها وتأكيد حضورها ؟ ولأننا، وكما يعتقد كثيرون أن هويتنا الوطنيَّة العراقيَّة تواجه أو تعاني، منذ عدة عقود أزمة حضور وفعل وتأثير وافتقادها بالتالي لدور مفترض في تحقيق الوحدة الوطنيَّة، ووحدة الشعب كوجود موحد على حساب التكوينات وليس (المكونات) والانتماءات الاخرى، ولاسيما بعد تأسيس الدولة العراقيَّة الحديثة عام 1921.
لقد كان الملك فيصل الاول هو، أو أحد، الذين أشاروا بشكل مبكر إلى ازمة الهوية الوطنيَّة العراقيَّة وتالياً أزمة تبلورها وحضورها لتكون العامل الأهم لتحقيق وحدة الشعب والمجتمع العراقي. وهنا يبرز السؤال : لماذا لم تسع ولا تسعى مختلف إدارات الدولة العراقيَّة المعنيَّة ومعها النخب الفكريَّة والسياسيَّة في العمل وتوفير الأسباب والظروف لبناء هوية وطنيَّة عراقية كأحد مستلزمات وشروط وأسباب بناء دولة عراقية مدنيّة عصرية يتعزز خلالها بشكل أساسي مبدأ (المواطنة) والمساواة بين أفراد الشعب (المواطنون)، وهو المبدأ الذي افتقدنا وما زلنا نفتقده اكثر فأكثر.
وبسبب الإهمال أو عدم الاهتمام بتوفير شروط تحقيق الهوية الوطنيَّة خلال العقود العشرة الماضية، فإن من الممكن الانطلاق الآن في العمل لتحقيق ذلك، من خلال قيام الدولة ومؤسساتها لصيغة واقرار المناهج الدراسية، بدءاً من الابتدائية حتى الجامعية. لدفع جميع الطلاب الاهتمام بمعرفة التراث العراقي بمختلف أشكاله وتعبيراته: الآثار وأحداث التاريخ المهمة، وكذلك مختلف العلوم والآداب والفنون، التي انجزها العراقيون خلال عشرات القرون، والقيام، بالترافق مع ذلك، التعرف العملي الممكن لمعظم أو بعض هذا التراث للطلاب وغيرهم من العراقيين، ليصيغ ذلك أفكارا ورؤى من يتأثرون بذلك، الذين سيشعر غالبيتهم بالفخر والاعتزاز، بل والتباهي بهذا التراث وإبداعات العراقيين بمختلف المجالات ولعشرات القرون.
إنَّ الأهمية الكبيرة، بل والعظيمة، هي الأرضية والقاعدة العلميَّة والثقافيَّة والفكريَّة الرصينة والمؤثرة، التي توفرها معرفة واستيعاب تراث العراق، وحضارته لدى غالبية العراقيين، وبالتالي بلورة وصياغة أفكارهم ورؤاهم على أساس الرؤية الوطنيَّة، الرؤية بالهويَّة الوطنيَّة التي يرى العرب العراقيون من خلالها إلى كل تراث غير عربي، كردياً أو تركمانياً أو أي انتماء قومي آخر، إنه تراث عراقي تتراجع من خلاله أي نظرة تقول هذا للكرد وليس لي للعرب وليس لي للمسلم وليس للمسيحي أو لغيره، اي نظرة العراقي، لأي كيان انتمى لكل آثار ونتاجات العراقيين في الادب والعلوم والفنون، وكل شيء وفي أي منطقة من مناطق العراق، هي نتاجات لكل العراقيين والعراق، وهذا يعني بوضوح وبشكل عملي وواقعي، أن التراث والحضارة العراقيينِ مهما تكن هوية المساهم بها من العراقيين هي لكل العراقيين، ليس فقط من أجل أن يفخروا ويتباهوا بها إنما ليتوفر ايضاً جراء ذلك أهم وأقوى وأشد عوامل اللحمة الوطنيَّة للعراقي مع العراقي الآخر، الذي يفخر بنتاجاته ودوره في صناعة التراث.. ومن هنا يتجلى بوضوح الدور المهم والفعّال واأساس لبناء هوية وطنية عراقية توحد العراقيين كـ (مواطنين) في دولة واحدة موحدة تحتوي وتسعد بتعدد انتماءات (وليس مكونات) تكويناتها المتعددة والمتمايزة، لكن المتآخية بالتأكيد، كما يفترض.