الديمقراطيَّة في الحفريات العراقيَّة

آراء 2023/10/04
...







 أ.د عامر حسن فياض

إنَّ التاريخ لا يعيد نفسه بيد أن استحضار أفكار وأفعال عبر الحفر فيه قد تفيد الحاضر والمستقبل دون العيش فيها والاعتياش عليها، كما كانت عليه. وقد تنفع على وفق نهج استحضار التاريخ لمغادرة سلبياته أو للاسترشاد بإيجابياته من أجل توسله لقبول معطى فكري وعملي جديد ومعاش.
لقد تسربت فكرة الديمقراطيَّة الحديثة إلى العراق لتخترق إطاراً معرفياً تقليدياً تشكل عبر تجربة تاريخيَّة طويلة شهدها العراق منذ عصورٍ قديمة، واذا كانت الديمقراطيَّة، كمصطلح سياسي قد وجدت عند الإغريق، فإنَّ ذلك لا يعني عدم وجود نظائر لها لدى الشعوب الشرقية من قبل.
إن استحالة تتبع أحداث التاريخ العراقي حدثاً حدثاً بحسب تسلسلها الزمني، لم تمنع الأستاذ (توركيلد جاكوبسن) من التوصل إلى أن الفكر السياسي العراقي القديم كان قد عرف نمطاً من الديمقراطيَّة سماه بــــــ (الديمقراطيَّة البدائيَّة) في مجتمع صنف على أساس أنه (مجتمع ديمقراطي وعسكري)، وهذا النمط كان على رأي (جاكوبسن) بمثابة الصورة التي اتخذها نظام الحكم في العراق القديم. وهو نمط يقوم في السماء مثلما يقوم في الارض.
أما في السماء فإنه انعكس على المستوى الديني على أساس أن مملكة السماء كانت تسودها الديمقراطيَّة البدائيَّة. ولقد اعتمد (جاكوبسن) في ما توصل إليه في هذا الشأن على ان آلهة أولئك العراقيين القدماء كانوا مقيدين بقرارات مجلسهم. وكان لذلك المجلس أو الندوة صلاحيات دينيَّة وعقابية معينة لتحديد الآجال ومحاكمة الانسان على عقوقه وارتكابه ما يغضب الإله، وانتخاب احد الآلهة ليكون رئيساً لهذا المجلس، ومنحه السلطة المطلقة في حالة الطوارئ والظروف الاستثنائية، وإسباغ صفة الملكية على إنسان ليحكم باسم الآلهة على الارض.
إن ممارسة السلطة داخل المجتمع الإلهي كانت مطبوعة بطابع الديمقراطيَّة البدائيَّة، فقد أشار (دياكونوف) إلى أن (مملكة الآلهة كانت قد صورت في القرن الواحد والعشرين قبل الميلاد، كما لو كانت تحكم من قبل ملك الآلهة بطريقة غير أوتوقراطية، وإنما كان يشاركه في حكمه هذا مجلس كبار مؤلف من الآلهة الكبار. وهذه المملكة كانت تشكل، بلا شك، مدينة سماوية، كما كانت الآلهة فيها مجرد مواطنين.
ويؤكد (جاكوبسن) أن صورة الدولة الكونية هذه تعكس صورة الدولة التي كان قد عرفها العراقيون القدامى، بوصفها الدولة التي وجدت في عصر ما قبل التاريخ، والتي كانت الديمقراطيَّة البدائيَّة هي السمة المميزة لها. ثم يخلص في ذلك إلى القول (ولذلك يسوغ لنا أن نفترض أن فكرة الدولة الكونية تبلورت في زمن مبكر جداً، عندما كانت الديمقراطيَّة البدائيَّة هي نمط الدولة الشائع، بل قل عندما تبلورت حضارة وادي الرافدين نفسها). ثم يضيف (جاكوبسن) موضحاً فيقول (إن البابلي عندما جعل الكون يتكامل لعينه، كان يعيش في ديمقراطية بدائية، وكانت المشاريع الكبرى، والقرارات الخطيرة تنبثق من مجلس عام لجميع المواطنين، ولم يكن هناك فرد واحد المضطلع بها، فمن الطبيعي إذن بموجب هذا وفي محاولة البابلي فهم الأحداث الكونية، أن يعني بوجه خاص بالطرق التي تنتهجها قوى الكون الفردية في التعاون والتكاتف على إدارة أمور الكون).
وقد كانت هذه الطرق قد اتخذت هي الأخرى شكل الديمقراطيَّة البدائيَّة، إذ يبدو أنها كانت تعبّر عن شكل الدولة الشائع في العصر، الذي ولدت فيه حضارة ما بين النهرين. ولكن التطور التاريخي سيفرض أنموذجاً آخر للسلطة غير السلطة الاجتماعية، الا وهي السلطة السياسية. ومع ظهور الأخيرة ستتخذ سلطة المجتمع الإلهي طابعاً جديداً غير الديمقراطيَّة البدائيَّة. بكلمة اخرى إن سلطة المجتمع الإلهي ستتخذ طابع السلطة المنفصلة عنه، والتي تمارس عليه عن طريق القوة. وهذا الطابع كان قد عبر عنه الفكر السياسي العراقي القديم من خلال الطابع الذي اتخذته سلطة الإله (أنليل). فقد كانت سلطة هذا الإله تتسم من قبل بطابع الديمقراطيَّة البدائيَّة، بقدر ما كان يبدو إلهاً مكرساً للخير. ولكن هذا الطابع سيختفي بقدر ما ستبدو سلطة الإله (أنليل) متسمة بالقوة والبطش، والقيام باعمال العنف.
وعلى الرغم من تواري السلطة الاجتماعية وحلول السلطة السياسية محلها، فإن المجلس الذي كان يحكم المجتمع الإلهي قد بقيَّ محتفظاً ببعض آثاره. فقد أشار (دياكونوف) إلى أن (ملحمة الخليقة) التي يرجع تاريخها إلى عهد (حمورابي) وهو تاريخ متأخر، كانت قد أوضحت ان سلطة ملك الآلهة (مردوك) الذي اعقب (أنليل) وكذلك سلطة (كنكو) إله الشر، كانت قد قررت في إطار اسلوب ديمقراطي يتمثل باجتماع المجلس الإلهي وتداوله بالأمر، ومن ثم الإعلان عن موافقته على تزويدها بالسلطة.
أما في الأرض فإن هذا الخط من الديمقراطيَّة كان قائماً على أساس من جهاز شعبي يتمثل في مجلسين هما المجلس العام ومجلس الكبار.
لقد جعل (جاكوبسن) من وجود هذين المجلسين حقيقة ثابتة، بقدر ما أكد بأن المؤسسة الأكثر تقدما في وادي الرافدين، كانت قد تمثلت بمجلس يضم كل الناس الاحرار إلى جانب مجلس آخر انصرفت سلطته إلى معالجة الامور اليومية وضم مجموعة من الشيوخ. وإن هذا الأمر كان قد أكده (هنري فرانكفورت) بقوله (إن أقدم هذه المؤسسات السياسية التي عرفت آثارها للآن كانت تتميز بروح المساواة. إذ يظهر أن السلطة السياسية كانت بالاصل بأيدي المواطنين، وكانت السيادة في مدينة الآلهة تنحصر في مجلس يضم جميع الذكور الاحرار، كما نظن، يقوم بإرشاده جماعة من كبار السن، الذين كانوا في ما يبدو فضلا عن هذا مسؤولين عن الشؤون اليومية، وكان يضمهم مجلس خاص بهم. ويبدو أن سيادة الدولة، سواء كانت مستقلة أو خاضعة لحاكم لم يكن بالإمكان أن توجد بعيداً عن مجلسها، لا سيما المجلس العام الذي يتألف من مواطنيها).
واذا كان كريمر قدأشار إلى أنَّ أول برلمان سياسي في العراق القديم كان قد وجد قبل خمسة آلاف سنة، فإن (هنري فرانكفورت) كان قد خمن بأن المجلسين المذكورين آنفاً كانا قد وجدا مع وجود المدن في العراق القديم، وتشير التنقيبات الآثارية إلى أن العراق القديم كان قد شهد نمو مدن سومرية في موضع أور، وكذلك في كيش والوركاء ونفر ولارسه وأريدو وماوتلو وفي مواضع اخرى. غير أن السومريين لم يستطيعوا ان يحافظوا على وحدتهم زمناً طويلاً فنشأ عن ذلك نظام دويلات المدن قبل أن يعرف الإغريق هذا النظام بزهاء ألفي سنة، والذي تميَّز بالتنافس والصراع من أجل الهيمنة، إلا في بعض المجالات كالدفاع إزاء الأعداء الخارجيين، وفي العلاقات التجارية، حيث كان يجري التعاون بدل التنافس والصراع.
وكما هو الأمر في المجتمع الإلهي، فإن الصورة الديمقراطيَّة البدائيَّة في الأرض أخذت بالتضاؤل والتواري مع ظهور السلطة المركزيَّة.