د. يحيى حسين زامل
يرى الداخل إلى شارع الرشيد من جهة ساحة الميدان في «مدينة بغداد» بناءً أوشك على الانهيار، يلمس فيه بقايا من جانب إبداعي وعمراني، تمتاز به تلك المنطقة المائزة بناءاتها بالشناشيل البغداديَّة، والشبابيك العباسية وطُرز البناء الفريدة التي انتشرت في العقود الماضية، يتشابك فيها الحجر والحديد والخشب بتنسيقٍ منتظم عال، ينبئ بالتراث والعراقة، ويُحيل المشاهد والمهتم بالعمارة إلى ماضٍ ليس بالقديم جداً، ولكنه ماضٍ متصل بالحاضر لأن شواهده حاضرة ومرئية.
وهذا البناء كان في يوم ما عامرًا بالحركة والنشاط والفن، ويقال إنه كان كازينو أو ملهى للغناء والطرب، يُطلق عليه (ماجستك) أو (الهلال) (اسمه السابق) شُيّد في عام 1918، ويقال إن السيدة أم كلثوم قد غنّت فيه في العام 1932، نظرًا لمركزه المرموق، وأهميته المكانية والزمانية، فقد كان في مركز المدينة آنذاك، ومقر الحكومة وإدارة الدولة والعسكر وبعض مفاصل الدولة الأخرى، يرتاده عُلية القوم من أبناء المجتمع العراقي والطبقات المترفهة.
وهذا البناء المنهار يدحض المقولة المشهورة (بيت الطرب ما خرب)، فالجميع سينهار عاجلًا أم آجلا... كما انهارت الحضارات الأولى والدول والمدن والاشخاص، وهذه هي سُنّة تاريخيَّة وحضارية مازالت سارية المفعول إلى يومنا هذا، وقد وجد آثاريو العالم العديد من أطلال وشواهد تلك الحضارات والمدن التي تحولت من مدن حيّة إلى ميتة، أو من صنف إلى آخر، ومن نمط إلى ثانٍ، وحضارة تصعد وأخرى تهوي، وأمكنة تبنى وأخرى تنهار... وهكذا دواليك.
وعلى العموم فإن هذا البناء هو صورة عن اهتمام المجتمع آنذاك وثقافته، وفضلًا عن اهتمامه بالدين وطقوسه وشعائره، والمساجد وقبابها ومناراتها، وأضرحة الأئمة والأولياء والصالحين وعمرانها، فهو يهتم أيضا ببيوت الفن والغناء والموسيقى واللهو والترفيه، وتلك الأماكن التي تحتوي تلك الفنون لا تفارق الإنسان في مختلف أطوار حياته، فهي تعبّر عما يجول في خاطره من أفراح وأحزان.
وهذه المنطقة التي يُطلق عليها اسم «الميدان» توضح لنا تحول المراكز والمدن من نمط إلى آخر، فقد كانت المنطقة مركزًا حكوميًّا منذ الوجود العثماني في العراق، مرورًا بالوجود الإنكليزي، وحتى تأسيس الجمهورية العراقية عام 1921، وفي المكان نفسه تقع فيها وزارة الدفاع، ومراكز حكومية أخرى حتى أواخر الستينيات، وفيها تقع أشهر بيوت الشخصيات الاجتماعية
والفنية.
وقد كانت ذات المنطقة كما يقال ساحة ميدان عسكرية، ولذلك سميت بذات الاسم، وكان يباع فيه العبيد القادمون من دول أفريقيا وغيرها، والأفظع فقد كانت ساحة لإعدام المحكومين والمجرمين، حيث تعزف الطبول في تلك الساحة، وينفذ فيهم شخص اسمه (ناصر الاعور) تلك الأحكام؛ التي تحتاج إلى الشِدّة والقسوة، ثم لتتحول المنطقة بعد ذلك إلى أبنية حكومية، بناء محافظة بغداد ومركز شرطة، وبعض الدوائر البسيطة، ومركز ساحة الميدان يتحول إلى كراج لنقل الركاب، وتتوزع في المنطقة ذاتها العديد من بيوت الفقراء والمهمشين، وورش الحرفيين والكسبة وغيرهم، وفي مدة من الزمن بؤرة للمنحرفين وبيوت سيئة السمعة، يتردد عليها الكثير من المدمنين والمتسولين وتجار
الممنوعات.
غاية القول إنَّ هناك العديد من الأمكنة التي تحولت بفعل الزمن والأحداث إلى أنماط أخرى غير التي تأسست من أجلها، وتغيّرت وظيفتها كذلك من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية، وقد شهد العالم الكثير من هذه التغيرات المهمة في تواريخ المدن والمراكز، ولتتحول من مركزية إلى هامشية.