الرقصُ.. فاكهةٌ وحلوى تستلذُّ وتطربُ لها النفوس

ريبورتاج 2023/10/05
...

 رحيم رزاق الجبوري

هل مرَّ عليك وقت، تخجل فيه من استسلامك لإيعازات قوية تصدر من الدماغ؟ تحرضك وتدفعك على تحريك أردافك أو أقدامك أو رأسك؛ عند سماعك لموسيقى تطرب لها أُذناك؟ فتلتفت يمينا وشمالا، وتتظاهر بأنك غير مكترث، وغير مهتم بما سمعته، فتكتفي بحبس مشاعرك، خوفا من أن ينعتك الحاضرون، بشتى الصفات المعيبة، لتبقى ترقص وتهتز من الداخل، على وقع وسحر تلك الموسيقى الملهمة! بينما وحدهم، أولئك الذين يمتلكون القوة والقدرة والشجاعة، على ممارسة هذا الفعل؛ الذي يظنه المجتمع أنه لا يتلاءم مع ثقافته وعاداته وتقاليده.

فيقومون مطلقينَ العِنان لأقدامهم وتحريكها بشكل عفوي لممارسة الرقص -المخزون في وجدانهم وداخلهم- غير مبالين بالحضور، مفرغينَ طاقة هائلة مكتنزة فيهم، وقد سمحَ بخروجها للعلنِ هذا الإيقاع المغري! مستندينَ لوصف (واين داير-مؤلِّف أمريكي)، لهذه الحالة، بقوله: «عندما ترقص؛ لا يكون هدفك الوصول إلى مكانٍ ما في ساحة الرقص؛ لكنك تحرص على الاستمتاع بكل خطوةٍ، وهكذا هي الحياة!». فيتهكم ويتندر عليهم أغلب الحاضرين، واصفينَ إياهم بالجنون؛ لكن في داخلهم يتمنون فعل ما يقومون به!


اللغة الخفيَّة للروح

إن كل شيء في الكون لديه إيقاع. ويقال إن الإنسان، قبل أن يبدأ الكلام؛ لا بدَّ أنه رقص! وهذا الوصف وغيره يدعونا لنتأمل تاريخ الرقص وأصوله، والبحث في أسراره وخباياه؛ لنستنتج أن هذا النشاط الجسدي يبدو موغلًا في حياة البشر منذ القدم، على اختلاف الأزمان والثقافات. فهذه اللغة الغريزية في جسد الإنسان، والتي عرفتها مختلف الشعوب في ثقافاتها منذ القدم، هي ترجمة وتعبير عن مكنوناتها الروحية والنفسية والحربية والاجتماعية، قبل أن تصبح نشاطا ترفيهيا يقبل عليه الجميع ممارسة ومشاهدة، فصار الرقص؛ فنًّا قائما بذاته تبدع فيه كل يومٍ الأقدام المحترفة، لتبهر عيون المشاهدين بصورٍ فنية مؤطرة بالجمال، والإِلهام والمعنى!


ظاهرة حياة

تقول إسراء المرسومي (باحثة ومتخصصة في علم الموسيقى): «في بلاد الرافدين القديمة، كان الرقص، يتمثل فيها على شكل نقوشٍ. حيث أكدت تلك النقوش وجود الرقص كظاهرة ارتبطت بظواهر أخرى، وقد تركت لنا المدونات الكثير من الترتيلات والأغاني والأشعار التي تمت بهاجس الموسيقى إلى الحياة والمجتمع في سومر، وكان للسومريين أقدم نظام موسيقي في العالم، وربما كانت ذروته قبل (6000) سنة مضت، حيث كانت الموسيقى جزءا ضروريا من الحياة الطقسية السومرية».


راقصون من أجل المطر

ويؤكد الدكتور خزعل الماجدي (باحث وشاعر وكاتب مسرحي عراقي، متخصص في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة)، في أحد بحوثه: «إن رقصة استنزال المطر عند السومريين، تتشكل في أربع نساء بشعرهن الطويل يمثلن الاتجاهات الأربعة، ويأتي نثر الشعر كحركة سحرية؛ تدل على تحريك الهواء عن طريق شعر المرأة إلى تحريك الريح. وهذا يجلب الغيوم والغبار فتمطر السماء، وقد سمي هذا الطقس لاحقا بالسومرية (أكيتي)، الذي هو جذر لكلمة (أكيتو)، وهو عيد رأس السنة البابلية».


تأريخ الرقص الشرقي

يقول الباحث حسنين دخيل: «إن تاريخ الرقص الشرقي، يمتد لآلاف السنين. ويحسب كفن، كما (السامبا)، و(التانغو)، لأمريكا اللاتينية، و(السالسا)، و(السوينغ) المصاحبة لموسيقى الجاز عند الأمريكان. و(الرومبا) المنقول مع العبيد من إفريقيا، إلى كوبا. ورقصات (الفالس)، وانطلاقها من النمسا، وألمانيا على نغمات الموسيقار النمساوي العظيم يوهان شترواس».

تناغم

ويضيف: «إن العامل الأساسي لكل أنواع الرقص بالعالم؛ هو الحفاظ على تناغم حركة الجسد، مع النغمات بشكل إبداعي، ويمثل تراث المنطقة وتأريخها، كما الشعر، والرسم، والمسرح. فهو فعالية مرادفة لوجود البشرية منذ فجر السلالات». 


اكتشافات

ويكمل: «إن أقدم الاكتشافات تعود للكهوف، ويرجع تأريخها لـ(6000 سنة ق.م) بمدينة باليرمو الإيطالية، في كهف (روكا دبل موروس) بـكتالونيا، وبمصر القديمة. إذ كانت الرقصات تمثل أحداثًا محددة للحرب، والزواج، والحصاد. حيث كان تقسم النساء لمجموعات يسمونها (كينير)، حسب نوع ومناسبة الرقصة، والفصل المحدد لها. وفي الصين يرجع تأريخ الرقص، لأُسرة تشو (256- 1046ق.م)، وكان اسمه (الكورال)، ويسمى المشهد المسرحي القديم بـ(بياكسي)، والذي يضم فتياتٍ راقصات بالفساتين، مع رفرفة الأكمام الحريرية. ومحددة بالفصول، للربيع، والخريف فقط».

توثيقٌ تشكيلي

ويختم، حسنين، بقوله: «إن أقدم لوحة عالمية في العصر الحديث للرقص؛ ترجع للفنان والمستشرق الفرنسي (جان ليون جيروم) رسمها، سنة 1863م. والتي تمثل مجلس رقص لفترة الخلافة العباسية، وموجودة اليوم بمعهد دايتون للفنون (أوهايو)، في أميركا». 


يومٌ عالمي

يقول محسن حسين (صحفي وباحث): «في عام 1982، أنشأت لجنة فنون الرقص للهيئة الدولية للمسرح، يوما عالميا لفنون الرقص، الذي طرحه مجلس الرقص العالمي، وهو منظمة غير حكومية شريكة لليونسكو، ويُحتفَلُ به في 29 نيسان/ أبريل، من كل عام. ويصادف هذا التاريخ؛ ذكرى ميلاد جان جورج نوفيري (1727- 1810)، (راقص، ومبتكر الباليه الحديث)، وهذا التاريخ لا يرتبط بشخص، أو بشكل معين من أشكال الرقص. فالغرض الرئيسي من هذه المناسبة؛ هو لجذب انتباه نطاق أكبر من الجماهير إلى هذا الفن. ومن أهدافه: نشر المعرفة بين الناس حول قيمة النموذج الفني. وتمكين مجتمعات الرقص والمسرح من الترويج لأعمالهم على نطاق واسع؛ حتى يدرك صناع القرار قيمة هذه النماذج الفنية ودعمها، فضلا عن التمتع بالفن بحد ذاته».


إحصائيَّات

ويضيف: «بحسب المعلومات المتداولة؛ فإن الترتيب الكامل لأنواع الرقص المفضل عالميا، إذ يحتل الهيب هوب 40٪ قاعة رقص 13٪ تأرجح 13٪ لاتيني (سالسا، تانغو) 12٪ رقص شرقي 7٪ باليه 5٪ رقص شعبي تقليدي، أو أصلي (إفريقي، إيرلندي، صيني) 5٪ النقر 4٪ بوليوود 2٪. وفي الدول العربية، هناك الكثير من ممارسات الرقص الشعبي، ومنها (الدبكات) التي تتميز بها بشكل خاص، سورية، ولبنان، والعراق، ودول الخليج. كما يمكن الإشارة إلى رقص الغجر (الكاولية)، ومن بين الرقصات الشهيرة في العراق (رقصة الهچع)». 


المدرسة الوحيدة

ويختم: «لا تزال (مدرسة بغداد للموسيقى والباليه)، هي المدرسة الوحيدة المتخصصة، في تدريس فنون الموسيقى ورقص الباليه، والتي أُسِّسَتْ في بغداد عام 1969، إذ تستقطب الأطفال، من المرحلة الابتدائية، وصولا إلى المرحلة الإعدادية. ولسنوات عديدة كان المدرسون أغلبهم من مسرح البولشوي في روسيا؛ حيث حضروا خصيصا إلى العراق، لتعليم فنون الباليه والموسيقى. أما في الوقت الحالي فإن جميع طاقمها من العراقيين».


حسرة

يروي أحمد سعداوي (روائي، وقاص)، حكاياته مع الرقص، واصفا عدم ممارسته، من الحسرات التي ترافقه، منذ سنين طويلة، إذ يقول: «واحدة من حسراتي، أنني لا أعرف الرقص؟ ولا أي نوع منه. لا شرقي، ولا غربي. وحتى حين نصحني أحد الأصدقاء بأن (اتبعِ الإيقاع فقط)، وسترى نفسك أنك ترقص. لم أجرب ذلك، ربما حياء، وخجلا». ويضيف: «لكني أستمتع كثيرا بمشاهدة عروض الرقص، إن كانت حية في حفلات ومهرجانات، أو من خلال التسجيلات. وأشعر بأن الجانب الاحتفالي، في أي ثقافة يتركز في هذا الفن. وغيابه يعني انطفاء لا يمكن تعويضه».


ثقافة عرجاء

ويختم، سعداوي، بالقول: «إن ثقافتنا عرجاء؛ لأننا لا نحترم الرقص، ونضعه في خانة 

الفنون المغضوب عليها؟ فلا نتعلم احترام الجسد، ولا نعرف فوائد انعتاقه، ولا نفهم لماذا البشرية ترقص منذ قاعات المعابد، قبل آلاف السنين إلى يومنا هذا. إننا جامدون مثل تماثيل من الجبس، ونصاب بالرعب من الحركة؛ لأن وعينا نفسه مرصوف بمئات التماثيل الجبسية؟!».