ثامر عباس
غالبا ما يحلو للعراقيين التباهي بماضيهم التاريخي وإرثهم الحضاري، كما لو أنهم جبلوا من طينة خاصة غير طينة الجماعات البشريَّة الأخرى، التي تركت – هي الأخرى - بصماتها على مسارات التطور التاريخي وخلّفت من الانجازات الحضارية ما لا يقل إبداعًا وتميّزًاعن نظيره العراقي. والحقيقة إن افتتان العراقيين واحتفائهم بالماضي لا يصدر عن وعي بطبيعة ذلك الماضي، وما ينطوي عليه من ذاكرة جمعية مثخنة بالأحداث ومكتنزة بالوقائع، وإنما لا يعدو أن يكون سوى (المعادل الموضوعي)، لفرط شعورهم بفداحة معطيات الحاضر وطغيان إحساسهم بمخاطر توقعات المستقبل. وهو الأمر الذي ترجم على صعيد الواقع الاجتماعي والسياسي، إلى تراجعات مستمرة وانكسارات متتالية، وانهيارات متواصلة، دون أن يُصار إلى الاستفاقة من السبات الحضاري الذي طال أمده وتفاقمت مضاعفاته.
وفي إطار الحديث عن أسباب إخفاق الذات العراقيَّة في بلوغ مستوى الوعي بالذات التاريخي – الحضاري، يمكن اعتبار ظاهرة تصدع الذاكرة الجمعية وتفتت بنيتها إلى أصولها البدائية (الإقوامية والقبائلية والطوائفية والمناطقية)، هي من أخطر العوامل التي ساهمت بشكلٍ فاعلٍ ومؤثرٍ في ديمومة حالة الاغتراب، التي تعانيها الجماعات حيال انتمائها للشخصية الاجتماعية (المعيارية) من جهة، وإزاء ولائها للهوية الوطنية (العراقيَّة) من جهة أخرى. ولهذا فما لم يعاد ترميم الذاكرة العراقيَّة - عبر نقد السرديات الأسطورية وتعرية المرجعيات الأصولية – فان حالة الاغتراب المتفاقم بين الجماعات، لا تلبث أن تتحول إلى حالة من الاحتراب المعمم بين الأصوليات، على خلفية المخاوف البينية والكراهيات المتبادلة التي لم تخفي الأطراف الخارجية (الإقليمية والدولية) السعي لتأجيج أحقادها واستثمار تداعياتها بما يخدم مصالح تلك الأطراف المستفيدة، ويعزز هيمنتها على الصعيدين الجيوبولتيكي والجيواستراتيجي.
ولعل هناك من يعتقد – خاطئا- انه يكفي الإشاحة عن التذكير بأحداث ما جرى في الماضي من أحداث مفجعة، وإسدال ستار النسيان على ما حفل به التاريخ من وقائع مروعة، حتى تتمكن الذات العراقيَّة المتشظية من لملمة شعث ذاكرتها المفتتة واستعادة زخم وعيها الوطني المتهتك، بعد أن تكون قد تخففت من إلهام ذلك الماضي وتخلصت من آثام ذلك التاريخ. دون أن يناهى إلى إدراكهم أن عملية (الإشاحة) وتجربة (النسيان) - حتى وإن كانت جادة – لا تعتبر (علاجا) ناجعا لاحتقانات جروح المخيال المعبأ بالخرافات، بقدر ما تشكل (مهدئا) مؤقتا لاعتلالات صدمات السيكولوجيا المجيّشة بالأساطير.
والمفارقة أن غالبية من تقع عليهم مسؤولية إيجاد الحلول واجتراح المعالجات، لمثل هذه الإشكاليات العويصة، عبر مراحل تاريخنا السوسيولوجي والانثروبولوجي والسيكولوجي، كانوا – ولا يزالون - يعتقدون بكفاية التركيز على (مقومات) وطنية وقومية غالبا ما كانت (افتراضية/ متخيّلة) لا أساس لها على أرض الواقع، سوى كونها ترتكز على خطابات أيديولوجية مفبركة إلى سرديات تاريخية ملفقة، جردت العادة على تداولها وترويجها في الأوساط البيداغوجية بحماسة طفولية ساذجة، دون أن يصار إلى شحذ أدوات الوعي التاريخي (المغيّب) لتدقيق مزاعمها وتحليل مضامينها.
وعلى هذا الأساس، فبقدر ما يتم الإلحاح على تبني مقومات واجتياف قيم اجتماعية وتاريخية وثقافية (مفترضة) و(متخيلة)، من لدن المعنيين بأمر توطين وتكريس هذه الرؤى والتصورات المؤمثلة داخل بيئة سوسيو – انثربولوجية، قلما كانت حاضنة حضارية مناسبة لاستنبات ورعاية مثل تلك العناصر والمثل، لاعتقادهم بإمكانية الارتقاء بقدرات (المواطن) على وعي ذاته (الوطنية)، وإدراك أصالة شخصيته (الاجتماعية)، وبالتالي خلق ذاكرة عراقية موحدة.
بقدر ما كانت تصدعات أساساته المعياريَّة تتزايد وتتضاعف، وشروخ منظوماته السيكولوجية تتعمق وتتوسع، وتهتكات علاقاته الاجتماعية تتواتر وتتوالى. وهنا تأتي لحظة الوقوع في المحظور، حيث الارتداد والنكوص من ذرى الوعي بالذات إلى حضيض غربتها!.