الوجود والأنسنة عند علي مقوّص

ثقافة 2023/10/10
...

 رندة حلوم

المتذوّق للعمل الفني عند الفنان التّشكيلي علي مقوّص، يلتقي بشكل مباشر مع الكثافة والاختزال، فثمّة سطوة مكانيّة وفكريّة عاليّة، عبّر عنها مقوّص من خلال منابع اللّون والخطوط المترنمة بموسيقى شرقية بعيدة في التاريخ والعمق الوجودي، حتّى التّماهي مع العمل الفني، يميل الفنان في لغة وأدوات العمل الّتشكيلي إلى الاعتماد على اللّون وعلاقة الإنسان مع هذا  الوجود.
المتلقي للمنجز التّشكيلي عند الفنان بمواجهةٍ مباشرة مع المكان، فالمكان هو العتبة البّصرية الأولى للمادة، فمن خلال التجريد والانطباع يغوص الفنان ضمن مكانه، وهو البيئة السّاحليّة التي نشأ فيها، وما تحمله هذه البيئة من إرث حضاريّ وجغرافي وميتافيزيقيّ بعيد في ذاكرة المكان التاريخيّة.
وهنا نتجه إلى تفسير العمق الإنساني وأنسنة المكان، بمعنى الرّوح الجماليّة العاليّة التي تنبض في التشكيل، سواء كان بيئة صخريّة جبليّة، أو غابةً كما في مجموعة (خريف غابة البلوط).. وغيرها من المجموعات واللّوحات التي تحمل سمة العمق وتحمل التشكيلات لمشاعر وأفكار ضاربة في الوعي واللّاوعي الجمعي لساكني مكان أو بيئة معينة.
 ترتفع النغمة وتتسارع وتيرة التعبير باللّون في تشكيلات مقوص الباذخة، وقد تعشّقت تلك الألوان مع الصّخور، وتماهت معها ومع ذاكرة هذا المكان ودواخل وجوانيّات الفنان، فكانت تميل إلى الرمادي والبني وتموّجات الأزرق حيث تتماهى الأرض الصخريّة مع السماء وأحياناً مع التربة، لكن هذه الألوان سرعان ما تتغيّر عند الانتقال إلى خريف غابة البلوط باتجاه اللّون البرتقالي وتدرّجات الأخضر، كل هذا في لحظة كشف وجذب بصري اشتغل عليه مقوص بحرفيّة الملوّن ونفس الشاعر.
التكوينات البشريّة مع الطبيعة تتحد لتشكل البعد الملحمي والفلسفي.
تتوّج التجربة البعيدة المدى، الكثير من التطورات الكبيرة على صعيد البناء والتكنيك، لتتمخّض عنها رؤية عميقة لفلسفة وجود الإنسان على هذه الأرض، متجهةّ إلى هارمونيّة التكوينات البشريّة عبر تكرار المفردة (الشّخص) في بعض اللّوحات وازدحام ايقاعاتها التعبيريّة والرمزيّة مع التجريد العميق، للحفاظ على علاقة المتلقي القويّة مع السّطح وفهمه بعيداً عن ذاتيّة أيّ فنانٍ والإبقاء على علاقته مع لوحته من خلال كونه طرفا من ثلاثة أطراف تقوم بتشكيل التجريد هي الفنان والعمل والمتلقي، ففي التّجريد المتلقي مبدع ثانٍ للوحة.
لم يخرج مقوّص عن بيئته الملحميّة من خلال طرح تلك الملاحم في لوحاته مع الاهتمام برمزيّة الشجرة، تلك المرتبطة بقصّة الخلق في العديد من المثيولوجيات.
 أعطى مقوّص الملاحم بعداً تشكيليّاً مرمزاً، كما في ملحمة "الإله بعل" ليدخل من بباب "الميتافيزيقيا" إلى عقل ونفس متلقي لوحاته يغدق عليه بالبُعد الفلسفي والوجودي العميق، لتكون تشكيلات علي مقوّص سجلاً لتاريخ تكوين منطقة من خلال تكوين تشكيل، يستحق معه هذه المكانة في عالم التشكيلي.