النص المسرحي المرئي والعرض المكتوب

ثقافة 2023/10/11
...

 

فاضل سوداني 



   بأي طرق يتقارب النص الدرامي مع نص العرض، وما هي نقاط التماس في ما بينهما؟  وكيف يتم استقبال وتفسير النص المسرحي من قبل الممثلين والمسؤولين الآخرين في العرض؟ وكذلك كيف يتم استقباله وتفسيره من قبل المتفرج ؟ 

     هذا سؤال جوهري بالنسبة لتحليل العروض التي لا تزال  تستخدم نصوصاً مسرحية، مع التأكيد بأن النص هو أحد المكونات الرئيسية للعرض . 

     ولكن الأشياء قد تغيرت منذ نهاية القرن التاسع عشر، إذ أعطيت الأهمية الكبرى للمخرج باعتباره القادر على إضفاء رؤيته الجديدة والمعاصرة على النص وعرضه المسرحي الذي يجب أن يكون مكتوباً بصرياً، وذلك لأن الإخراج امتلك أساليبه ووسائله البصرية التي تختلف عن وسائل النص . فلم يعد الإخراج تفسيراً حرفياً للنص أو مشتقا منه، وإنما شمل مجمل الرؤية الإخراجية لدرجة، أن النص قد تقلص حتى أصبح وسيلة من وسائل بناء الرؤية. 

 وهنا علينا التأكيد على نوعين من النصوص هما : 

1. النص الأدبي (الذي يكتب بوسائل أدبية ) . 

2. نص العرض المسرحي (الذي يبنى على الرؤية الإخراجية ومن ضمنها النص الأدبي أو السيناريو .) 

 وعلينا هنا أن نحدد بالضبط مكانة النص المسرحي، وهل هو مستقل عن العرض باعتباره نصا أدبيا كتب بوسائل أدبية، أو ان هذا النص يعد جزءاً من وسائل ولحمة العرض؟ وهل يعد المسرح أدباً  فقط ، أو هو يمتلك لغته الخاصة بحيث يكون عرضا بصريا فنياً ومرئياً ؟ بالنسبة لنا فإن النص جزء من العرض المسرحي، وعند استخدامه في العرض فمن الضروري أن يتحول إلى نص بصري، بمعنى أن الرؤية الإخراجية تحوله من أدب مسرحي إلى نص بصري ضمن الأنساق أو العناصر المادية الأخرى للعرض المسرحي، (الممثل، الملابس، الإنارة، السينوغرافيا، الأقنعة، الأشياء، الموسيقى،  والمؤثرات الأخرى) . 

النص المكتوب – النص المؤدى (العرض)

    إن النص الأدبي التقليدي المؤدى على خشبة المسرح يعرض على الجمهور وجهة نظر وقراءة المخرج والممثلين والعناصر المادية الأخرى، مما يغلق باب التفسير أمام المتفرج، ولكن بعض المخرجين والعروض وبأسلوب حداثي ( وخاصة ما نسميه النص والعرض البصري) يشاركون المتفرج بأن يكون جزءاً من العرض. 

    وبما أن العرض هو تجسيد بصري للأحداث والشخصيات، فهذا يعني أن ما يراه المتفرج هو دلالات بصرية تؤثر في البصر والسمع، ويتم هذا عندما لا يقتصر المخرج على تفسير نص المؤلف فقط وإنما يتحداه برؤية إخراجية تعطي النص بُعدهُ البصري وتحوله إلى رؤى بصرية حية، وعلى هذا الأساس يعمل (بيتر بروك) وغروتوفسكي ويوجين باربا وآريان منوشكين وروبرت ولسون وليباج وغيرهم . 

    وعندما يكون النص سابقاً على العرض ويكتب بالوسائل الأدبية وليست المسرحية وله مركزيته، فالمخرج والممثل فيه يضع نفسه وكل إمكانياته في خدمة النص الأدبي وكاتبه، وبهذا يستحوذ هذا النص على الحركة واللغة التعبيرية للجسد، وهدف العرض هو تجسيد نص المؤلف . إنها الرؤية المبنية على مركزية النص في المسرح، وهي رؤية ما زالت سائدة إلى حد كبير حتى الآن. وما يتطلبه المسرح المعاصر هو التأكيد على أهمية الرؤية الإخراجية  من خلال العناصر البصرية غير اللفظية في العرض.     

  تحدد الرؤية الإخراجية نوعين من النصوص المسرحية: 

1. النص الذي يسبق العرض والذي يكتب من قبل المؤلف . 

2. النص الذي يؤلف بصريا على خشبة المسرح من قبل المخرج والممثلين، أو يكون هناك نص لكنه يعتمد على الرؤية البصرية للإخراج . 

    ومثل هذا النوع الأخير من النصوص من النادر أن نجده على خشبة المسرح مؤلفاً من قبل المخرج والممثلين، ولكن حقيقة الأمر أن النص المؤلف والذي يسبق العرض سيتأثر بشكل كبير أثناء التدريب والممارسة المسرحية، أي أن نص المؤلف في هذه الحالة يتحول من خلال رؤية المخرج وأداء الممثل إلى نص بصري، يتخلى عن كونه نصاً أدبياً أو نصاً مكتوباً بأساليب أدبية، ولهذا فإننا نؤكد أن العرض المسرحي يجب أن يقدم بأدوات وأساليب مسرحية وليست أدبية، وهذا يعني أن مؤلف النص المسرحي يجب أن يكون قادراً على كتابة نص مسرحي بصري، أي يكتب بأساليب المسرح وليس الأدب.

   بالرغم من أن رؤية السيميائيين وعلماء فقه اللغة  تختلف عن هذا التصور، لأنهم يتعاملون مع النص باعتباره “ كلّاً “ والعرض والعناصر المادية البصرية المسرحية مجرد تجسيد له .. مثلاً : 

    آن أوبرسفيلد تؤكد: (أن هناك فراغات من النص على العرض المسرحي ملؤها) . والباحثة  “أ. فيشر . ليشته” ترى أن النظرية المسرحية هي الدراسة المنهجية للعلاقات بين النص المكتوب والعرض، ولهذا فالعرض عليه أن يُفهم على أنه المفسر للدلالات الدرامية . و”كير ايلام “ يتساءل عن : ما هي الوسائل التي بواسطتها يتقارب النص الدرامي مع نص العرض ؟  وما هي نقاط الالتقاء بينهما؟ . أما “نيس ليمان” : فيؤكد أن “ الإخراج المسرحي ممارسة فنية غير متوقعة انطلاقاً من منظور النص”. 

 وكل هذا يخص السيميائية والمختصين بفقه اللغة، وهم يؤكدون أن النص يمتلك مركزيته بشكل مطلق ودعامة للعرض المسرحي ، وأن العرض عليه أن يخدم “النص المسرحي “ وهذا ما أكدته “ أ.فيشر . ليشته “ بشكل واضح،  ولكن ما ينافي تأكيدها هذا هو  أن العرض  المسرحي  كف منذ زمن طويل عن “تفسير الدلالات الدرامية “ للنص فقط، لأن المفهوم المعاصر للمسرح هو أن عليه أن يمتلك لغته المسرحية الخالصة، وعلى هذا الأساس فإن العناصر البصرية في العرض هي التي تؤكد ذلك، ولهذا فإن النص يعتبر عنصراً من عناصر العرض وليس “كلاً “، ويجب أن يدمج معها من خلال رمزية الرؤية المسرحية البصرية . 

    وعندما نحدد وضع ومكانة النص في إطار الإخراج المسرحي، ينبثق السؤال المهم: هل النص مستقل عن العرض أو جزء منه؟ وما هي خصوصية النص الدرامي؟. 

استقلالية أم تبعية النص

    لكي نستطيع أن نقيّم وضع النص الدرامي الذي نشاهده في العرض المسرحي، علينا أن نقرر أولاً هل كان له وجود مسبق ومستقل بوصفه نصاً مكتوباً؟ ففي حالة النص الكلاسيكي أو الحديث، فهذا النص بالتحديد له وجود مستقل قبل العرض ويستطيع الإخراج أن يتناوله . من الممكن ألا يكون النص قاعدة ينطلق منها الإخراج، ومن الممكن أن يكون قد تشكل تدريجياً في ما بعد أثناء التدريبات، أو قد يكون قد أُقحم في نهاية التدريبات أثناء تكامل العرض المسرحي، كما هو الحال في العروض المعاصرة التي تتطور على خشبة المسرح مباشرة من دون نص مستقل مسبق.

   ومن الممكن ألا تكون هناك أي قيمة أو مكانة للنص في العرض، وإنما يعتمد العرض على العناصر المادية البصرية غير الكلامية أو الحوارية، أي أن النص يتكون من كلمات وأصوات ليس لها ترابط أو تنسيق أو معنى، وهذا ينطبق مثلا على الكثير من نصوص المخرج الأميركي (روبرت ولسن) “ فالنص هنا ليس له معنى ولم يكن مكتوباً للرؤية الإخراجية، لأنه ليس سوى مادة صوتية وإيقاعية تستخدم كعنصر تشكيلي من دون أي دلالات أو معان” .

خصوصية النص الدرامي

    يفرض علينا تحليل النص الدرامي والتعرف على العناصر التي تخص النص والعرض في آن واحد، إن التحليل الدرامي للنص يوضح وينظم منهجياً ويعرفنا بالطريقة التي يؤثر فيها النص والعرض كل منهما في الآخر بشكل مستمر. 

   ولا يقتصر التحليل الدرامي على الأعمال الكلاسيكية وإنما ينطبق حتى على النصوص التي من دون الحكاية ونصوص البانتومايم أو النصوص الإيمائية. وبالتأكيد فإن النص المسرحي تطور باستمرار وتوضحت علاقته ومكانته ودوره في العرض المسرحي خاصة عند ظهور دور المخرج في منتصف القرن الثامن عشر وحتى الآن.

       وظهرت الدعوات لخلق نص مسرحي برؤية جديدة، فآنتوني آرتو يستبدله بـ “ لغة الفضاء المسرحي “، وطرح بريخت ما أسماه “ الجستوس الاجتماعي  Gestus”، وهذان هما فكرتان بصريتان تؤكدان على التصور الإخراجي البصري الذي يدعو إلى إلغاء مركزية النص الأدبي ولغة الأدب . ووفقاً لهذا المفهوم فإن المخرج الفرنسي “ كوبو” مثلا يرى أن الإخراج المسرحي : 

     (هو رسم حدث درامي ، إنه مجموعة الحركات والإيماءات والتوافق من الأشكال والأصوات ولحظات الصمت، إنه العرض المسرحي في كليته وشموليته منبثقاً من فكر أوحد يبلوره وينظمه ويجعله متناغماً ومتناسقاً )، ولهذا فتدخل مخرج العرض شيئاً فشيئاً محل المؤلف، بوصفه السلطة المهيمنة على إنتاج المعنى والمدلول الثابت للنص، وبدوره فإن المخرج المسرحي سوف يُتهم بأنه الفاعل الوحيد المتسلط على المسرح .

    ولكن بتأثير “ انطونين آرتو “ الذي أكد على بصريات المسرح في الشرق، فإن علاقة النص بالمسرح تطورت لدرجة أن النص لم يعد هو مركز العرض كما في الثقافة الغربية . أي تنوعت العلاقة بين خشبة المسرح والنص ، فمن خلال التأكيد على الأطر الثقافية والأنثروبولوجية لمختلف الشعوب وخاصة الشرقية منها، أصبح المهم في العرض هو عناصره البصرية المادية، فإذا كان النص هو مركز الإخراج في المسرح الغربي وهو المصدر والمرجع، فإن الأمر اختلف تماماً في الثقافات الأخرى .

   ففي الثقافة الأفريقية والشرقية هنالك خط فاصل بين النص ، الحركة ، الرقص ، الموسيقى، التي هي جزء من تراث هذه الشعوب، ولها أهميتها الثقافية والفنية، لهذا فإن النص لديهم لم يعد نقطة التحديد، إذ يمكن أن تحل هذه العناصر البصرية محل النص المسرحي، أو أن يحل عنصر آخر محله أو مستوحى ويؤثر في جوهر العرض المسرحي وبصرياته، كما هو الحال في استخدام “ الطبول “ التي تقول نصاً وأصبحت هي النص، كما في مسرحية “الموت وحوذي الملك “، للمؤلف سونيكا .