قراءةٌ في {المغايرة الموضوعيَّة} للمسرح

ثقافة 2023/10/15
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب

من نافل القول اعتماد الباحث والناقد الحصيف في كل صنوف المعرفة على أرضية فكرية ووثائقيّة ومنهجيّة غزيرة ودقيقة يقف عليها ليتمكن من الاستشهاد بالأمثلة وعقد القرائن والمجيء بالشواهد، فمن دون هذه الذخيرة يصبح هذا الباحث كأنه يجول في أرض جرداء مجدبة وتكون حتما قراءاته ورؤاه قاصرة ومحدودة في مستواها المعرفي والجمالي.

وهنا أود أن أشير لمقال الكاتب علاء كريم الموسوم (المغايرة الموضوعيّة في المسرح العراقي) والمنشور في جريدة الصباح الغراء يوم الخميس الموافق 5/ 10/ 2023 في العدد 5786، حمل المقال مغالطات وأخطاء واضحة لا تفوت الباحث الفطن اللبيب خصوصًا أنَّ الفترة التي تحدث عنها الكاتب مسرحيًا (الستينيات والسبعينيات) كتب عنها الكثير وأشبعت بحثًا ودوّنت عنها رسائل واطاريح جمة. وهنا نحن في مقالنا لا نستهدف الكاتب لشخصه -حاشا لله- إنّما نتحاور وننفتح على مقاله الأدبي وكشف ما فيه، نسعى من ذلك وهدفنا إعمام الفائدة وتصحيح الأخطاء الطفيفة التي يقع فيها الكتاب -وجلَّ من لا يسهو- وكما يقول أحد حكماء المسلمين (رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي). 

في بداية المقال يسرف الكاتب كثيرًا في الحديث عن (المغايرة الموضوعيّة) التي عنون بها مقاله ولم يعرّفها علميًّا واصطلاحيًّا، ولم يدخل في الأسباب الجوهريَّة والحقيقيَّة التي جاءت بفعل (المغايرة) فنيًّا في عروض المسرح العراقي فترتي الستينيات والسبعينيات والانفتاح على الاتجاهات والتيارات والاساليب المسرحية الحداثية التي اثرت في السياق الثقافي للحركة المسرحية، وخصوصًا الأسلوبين أو المنهجين الملحمي والتسجيلي لـ (بريشت) و(بيتر فايس) والتحولات السسيو ـ ثقافية العميقة التي ألقت بظلالها على الحقل المسرحي ورجالاته، آنذاك، كي تولد هذه (المغايرة الموضوعية) حسب زعم الكاتب، الى أن يصل بنا بعد هذا الاستطراد والاطناب في معرض حديثه عن مسرحية الطوفان تأليف عادل كاظم وإخراج ابراهيم جلال، إذ يقول: (وتجسد ذلك في الطوفان عند جلجامش وهو يفصح عما يعنيه من الشكوك عن علاقة والدته فاطمة الربيعي بالكاهن الاعظم صلاح القصب)، وهنا يخلط الكاتب من دون قصد بين عرضين لمسرحية الطوفان قدما في فترتين مختلفتين الاول قدم عام 1966 ولم تكن تمثل فيه الممثلة فاطمة الربيعي، انما مثلت دور الام إحدى طالبات المعهد آنذاك، والعرض الثاني قدم عام 1971 للفرقة القومية للتمثيل ومثلت فيه فاطمة الربيعي دور (ننسون) ام جلجامش باني مدينة اوروك، وأدى دور الكاهن الكبير (آنام) الممثل والمخرج الراحل بدري حسون فريد، إذن فاطمة الربيعي وصلاح القصب لم يلتقيا في مسرحية الطوفان كما جاء لدى الكاتب علاء كريم، وأشك أنّه شاهد العرضين أو قرأ عنهما، ولم يذكر (المغايرة الموضوعيّة) التي حدثت في مسرحية (الطوفان) نصًّا وعرضًا. يقول الدكتور عقيل مهدي في كشفه للمغايرة في المسرحية الشهيرة ما يلي: (إنَّ البنية الفوقيَّة لنصِّ عرض الطوفان تمثلت بكهنة المعبد وتراتيلهم وطقوسهم التي غاب فيها المنطق الإنساني وشاع فيها التهتّك حيث استطاع المصمم فاضل قزاز أن يبني معمارًا فوقيًا مهيمنًا في تسلّطه على من يسكن في القعر الأسفل من هذا التكوين، وهم بشر مستلبون يعانون الفقر والمرض والاضطهاد). أفصح العرض عن جماليات هذا التمايز الطبقي وصراعه المرير في السينوغرافيا في ضوء بنية أسطوريّة ومثولوجيّة ضاربة القدم، هنا تكمن مغايرة المخرج ابراهيم جلال على مستوى العرض ومغايرة المؤلف عادل كاظم على مستوى النص في استلهامه للحظة الانطولوجية الكبرى للفلسفة الوجوديّة في لا جدوى الحياة وعبثيتها المستقاة من الفلسفة الوجوديّة السائدة فترة الستينيات، فضلا عن التناص والتعالق مع التراجيديا الشكسبيريّة، فعادل كاظم بين حيرة (هاملت) الوجوديّة  (أكون أو لا أكون) وحيرة (جلجامش) الكونيّة في البحث عن الخلود. وفي متاهة والتباس آخر يدخل فيه الكاتب عندما ينفتح على مسرح يوسف العاني في مسرحيتي (المفتاح) و (الخرابة) حيث يقول: (والتي اعتمد فيهما العاني على المغايرة عبر تغيير الظروف بعيدًا عن تغيير الذات رغم أن تغيير الظروف لا يكون مجديًا إن لم يتغير الإنسان) ولم يدلنا أو يعرفنا الكاتب على هذه الظروف التي جعلت من (الخرابة) نصًّا فيه من (المغايرة الموضوعيّة) ما لم نره، لقد تحول (العاني) كما نزعم في نص (الخرابة) من الذاتي الى الموضوعي منفتحًا نحو الهم الانساني المشترك واصبح الموقف في مسرحياته لا يعتمد على الرسالة الايديولوجية قدر اعتماده الرسالة الانسانيّة التفاعليّة مع المتغيرات الآنيّة التي تحدث في أرجاء العالم المختلفة متخذًا من المسرحين التسجيلي والملحمي لـ (بيتر فايس) و(بريشت) طريقًا للولوج داخل الفضاء الإخراجي الذي اضطلع به الراحلان سامي عبد الحميد وقاسم محمد، في ثاني تجربة إخراج مشترك في المسرح العراقي المعاصر بعد مسرحية (وحيدة) التي أخرجها الراحلان محمد القيسي، وفخري الزبيدي عام 1969، و(الخرابة) أدان فيها (العاني) الصهيونية الساعية الى اضطهاد الشعوب وبخاصة الشعب الفلسطيني وانتقاد جرائم الامبريالية العالمية وما اقترفته الآلة العسكرية الامريكية من جرائم في حرب فيتنام من خلال بيانات ووثائق واحصاءات وسلايدات عرضت على خشبة المسرح، وهنا كمنت المغايرة وتجلياتها في (الخرابة)، ولم يشر الكاتب في معرض حديثه عن مسرحية (بغداد الأزل بين الجد والهزل) وهي من إعداد وإخراج قاسم محمد الى تأثيرات المسرحي المغربي (الطيب الصديقي) على رؤيا قاسم محمد، عندما شاهد مسرحية مقامات الهمداني للصديقي في مهرجان دمشق المسرحي عام 1970 ـ في انتهاجه لافكار (مسرحة التراث) والانفتاح على مفهوم (التأصيل) في المسرح العربي والذي ذاع صيته منتصف الستينيات حيث كانت الدعوة للحفر في الاشكال شبه الدرامية العربية والاسلامية والاغتراف من (المقامات) و(الرسائل) و(الحكايات التراثية) في بناء بنية (مورفولوجية) و(دراماتورجية) جديدة للحكاية تنتمي للعرض وليس للادب. يقول الكاتب عن مسرح ما بعد 2003 في بلادنا: (فالثورة المعلوماتية جعلت العرض المسرحي المعاصر أمام مأزق صوري ومعلوماتي كبير، حتى اصبح الجمهور امام مجموعة من العروض العالمية). يريد الباحث أن يضفي على طبيعة عروض ما بعد 2003 شكلا مزورًا وعموميًّا لا ينمذج الظاهرة المسرحية ولا يعطي مثالًا عنها انما تقوم هذه العروض لديه على فكرة الاستنساخ والتكرار من الصور الفديويّة العالميّة من دون الخوض فيها أو إعطاء أنموذج يفكك بنيتها الجمالية والفكرية الداخلية مقصيًا عديد الفواعل المسرحية التي تبدت ابداعاتها ما بعد 2003 كتابًا ومخرجين كعلي عبد النبي الزيدي، ومثال غازي، ومهند هادي، وتحرير الاسدي، وعلاء قحطان، وأنس عبد الصمد، ومحمد مؤيد، وعماد محمد، وصميم حسب الله، وابراهيم حنون، وماجد درندش، وعشرات غيرهم.