الدراسات الثقافيَّة وأسئلة التحولات
عبد الغفار العطوي
اقترنت الدراسات الثقافيَّة بعالم الاجتماع الماركسي البريطاني الجنسيَّة الجامايكي الأصول ستيوارت هول (1932 - 2014) الذي أسس مع زميليه ريتشارد هوغرت، وريمون ويليامز مدرسة الفكر، أو الدراسات الثقافيّة البريطانيّة. وتعد الدراسات الثقافيّة من بريطانيا الركيزة الأساسية في الغرب التي وجدت اهتماماً علمياً واكاديمياً، من قبل المزيد من المؤلفات والكتب والمقالات منطلقة من فكرة كيفية التفكير في التفكير في الإشكاليات التي واجهتها في قيام أسئلة التحولات الفكرية والفلسفية المنتشرة في أوروبا خصوصاً في فترة لما بعد ماركس، في السياق التاريخي الماركسي الذي اثبت قدرته على البقاء رغم العواصف التي اجتاحت الصروح الفكرية الكبرى في الغرب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وفي مدى المتغيرات التي احدثتها إشكالية الحداثة.
وتنتمي الدراسات الثقافية إلى الموقف الماركسي الغربي الذي استطاع إعادة قراءة تراث الفيلسوف كارل ماركس، ونقد الاتجاهات الكلاسيكية في ما تناولته الماركسية الجديدة في مفهوم الإيديولوجيا التي اعتنت بها الماركسية التقليدية وعلاقتها بالعامل الاقتصادي والطبقي، وكذلك في اللغة والخطاب، ومن جاء بعد ذلك من الباحثين الماركسيين من الذين تبنوا الإطار التاريخي للماركسية في قضاياها التقليدية مثل الإيديولوجيا مع مراعاة مستجدات العصر، في التطور الذي عرفته الدراسات الثقافية في مفهوم الإيديولوجيا من كونه اختزالاً لعلاقة اقتصادية أو طبقية نحو بنية سياسية اجتماعية، وما شكلت الإشكاليات المختلفة في ما هي الحداثة وموقف أشهر منظري الماركسية الغربيين المعاصرين ستيوارت هول المعروف في علاقته بتطور الدراسات الثقافية البريطانية كما بيّنه ديك هيدج؟، وما موقف منظرين ماركسيين اعتبروا من المدافعين عن الفلسفة الماركسية في كتاباتهم التنظيرية التي واكبت التطور الفكري الغربي عموماً، وبالأخص في التحولات الثقافية التي أجريت على فلسفة ماركس في الأسئلة الجريئة بشأن بعض الإشكاليات التي احدثتها في أهم القضايا التي مثلت جوهر الموقف التاريخي الماركسي في اشهرها التطور الذي شهده مفهوم الإيديولوجيا من كونه اختزالاً لعلاقة اقتصادية أو طبقية إلى وصفه خطاباً ترتبط داخله عناصر ايديولوجية (تناولت بعض مقالاتي مواقفهم في مفهوم ما بعد الحداثة مثل تيري إيغلتون، وفريدرك جيمسون، وديفيد هارفي، وستيفن جرينبلات).
وربما سنتحدث بشكل مبسط عن دور الدراسات الثقافية قدر تعلقها بوعي منظريها الغربيين المعاصرين الجدد الذين برزوا في ما بعد منتصف القرن العشرين، وتمحورت حول تقديم نموذج ناضج من أجل إقامة حوارات داخل الدراسات الثقافية الغربية التي تبنت بعض الإشكاليات المهمة التي ارتبطت بالتطور التاريخي الفكري في المجتمع مبتعدين تدريجياً في تلك الدراسات الثقافية عن المعالم الماركسية التي باتت عائقاً أمام تحولاتها الفكرية، وربما الطرح الفكري الذي وجدناه مقتصراً في تلك الدراسات الثقافية عالجت بعض القضايا التي كانت الماركسية تتعثر في حلولها كإشكالية ما بعد الحداثة، وإن ما تمت معالجتها من قبلها بالنقد والتحليل في ما يتعلق بمجالها المعرفي، وفي إشكالياتها الأساسية التي وجدت الدراسات الثقافية إن الابتعاد عن المنهج الماركسي يجعل النظر إلى مصطلح ما بعد الحداثة يأخذ بعداً استعمالياً غائياً وخياليًا يفقدها القاعدة المركزية في تعين وعي أسئلة التحولات التي تهتم بالمجال النقدي من النظرية والتطبيق نحو منطق التدخل الاستراتيجي في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.. ويمضي ديك هيدج في تعويله على نجاح المصطلح، إذا أخذ بعين الاعتبار مقاييس المنهج الماركسي في التطور التاريخي المادي، لنتذكر اعتراضات فريدرك جيمسون وديفد هارفي على أشكلة ما بعد الحداثة، وردهما على ما ذهب إليه انتوني جيدنز في نفيه لها، والقول بحداثة راديكالية مقابلها، في الإتيان بقدرة الحداثة المتأخرة حل تلك الأشكلة، حينما يتم الأخذ بالجانب الآخر.
ثمة مراهانات جديدة ابرزتها الدراسات الثقافية عقب تجديد استقلاليتها عن الماركسية التقليدية، في قيام ستيوارت هول في مفهوم التمفصل ما هو؟، وكيف نعي تعريفه من كونه مفهوما قد اختلف عليه، وحظي تحديدات عدة، فيمكن القول إنه عملية خلق روابط بين عناصر ليست بالضرورة متطابقة أو هو ارتباط بين عناصر مختلفة، والتمفصل امتلك أهمية في الدراسات الثقافية، ليس فقط كونه نظرية وممارسة، بل قدم توطئة لمفهومي الهيمنة والصراع الماركسيين اللذين طوعتهما الدراسات الثقافية، وعزلهما عن المنهج الماركسي التقليدي، وقام ستيوارت هول بوجيهما لصالح فصل مفهوم الإيديولوجيا التقليدية المتمركزة على العامل الاقتصادي والطبقي نحو الوعي السياسي والثقافي.
ويطلق على الماركسية التي جاءت بعد عملية المراجعة التي قام بها العديد من المفكرين الشباب بمرحلة التجديد، ويعد فترة تمرن سريعة ومتهورة (ماركسية جديدة من دون ضمانات أمام النمو الكبير للصناعات الثقافية) وليس غريباً أن تتعرض تلك الماركسية كنظرية إلى تحديد مهمة غير مستقرة ولا متوازنة، وهي تقدم فهماً جديداً للفكر الاجتماعي للبرجوازية سيفقدها عامل المغامرة؛ لذا سنعمد إلى التركيز لضيق المقال على العلاقة التي عقدها ستيوارت حول تطور مسألة الإيديولوجيا في علاقتها بالتمفصل من جهة والدراسات الثقافية بوصفها معقبة على المأزق الماركسي من جهة ثانية، في رؤية هول لهذه الفكرة.
يبيّن هول أن ما يميز تاريخ الدراسات الثقافية بالتغيرات المتواصلة في المنهج، ويعد هذا جانباً عادياً وصحياً لأيِّ مجال البحث في النمو، لكن التفاوت في ذلك النمو بينهما أعطى للدراسات الثقافية سعة في التطور، بينما ظلت الماركسية متشبّثة في أصولها التقليدية، لتجد تلك الدراسات الثقافية بوادر ابتعادها عن المجال الماركسي الصرف، عند المفكرين الذين وجدوا التفاوت بينهما (كولن سباركس).
لذا يعترف أنّه يمكننا أن نستفسر بمشروعية عن النتائج الضمنية للمسار الذي قمنا بفحصه، الرأي المهيمن داخل الحقل اليوم هو أنه بالتخلص من قشتها الماركسية، ولكي نفهم تلك المسافة التي خلفتها الدراسات الثقافية عن التصور الماركسي للإيديولوجيا، ولكي نجنب هول تبعة تقهقر النظرية الماركسية في أداء مهامها كممارسة لم تستطع الحيلولة من دون الركون لماضيها الغابر، بينما العالم حولها يتقدم، نتطلع إلى فقرة من الحوار مع ستيوارت هول أعده للنشر لورانس كروسبرغ (الدراسات الثقافية التمفصل الهيمنة الصراع محمد مفضل) مع قراءة (الوعي بالاعتراف محمد نور الدين افاية) الذي يؤشر إلى صراع بين الإيديولوجي والمعرفي، وانعكاساته على الهوية في عالمنا العربي ومسألة الإيديولوجيا التقليدية للماركسية مقابل ما طرحه هول من فكرة تطور المفهوم الحداثي للإيديولوجيا من كونها تخلت عن الوهم الاقتصادي المرتبط بمفهوم الطبقة (العاملة والبروليتاريا والبرجوازية) في عالم عاش صخب ما بعد الحداثة 1980، وكان لا بدَّ من الاهتمام بنتائج ذلك الانفجار، ووضع التصورات الثقافية التي تمخضت عن تطور الماركسية.