التصميم وإشكاليَّة التخييل

ثقافة 2023/10/25
...

 

د. علي محمد شواي



تعدُّ الصورة التخيليَّة نتاجاً ذاتياً للمصمم، من خلال إعادة تركيب الأشياء الواقعيَّة إلى أشياء خياليَّة، إنَّها “عمليَّة دمج وتركيب وإعادة تركيب بين مكونات الذاكرة الخاصة بالخبرات الماضية وكذلك الصور التي يجرى تشكيلها وتكوينها خلال ذلك في تركيبات جديدة”  إنَّها “تمثيلٌ ماديٌ لشيء خارجي مدرك بحاسة البصر، كارتسام خيال الشيء في المرآة، أو تمثيله بخطوط بيانيَّة، وأما أنْ تكون تمثيلاً ذهنياً لشيء مدرك بحاسة البصر أو غيرها من الحواس”  وصولاً نحو التحقق الفذ والفريد للصورة الفنيَّة من خلال قدرة المصمم على توظيف الوسيط المناسب ضمن آليَّة مناسبة ليعيد إنتاج خليقة من نوعٍ آخر،
وتأتي هذه الصورة “لفعل إبداعي لا شعوري بصفة جزئيَّة وتعمل عملها في ذهن المتلقي من دون وعي منه في قليل أو كثير، يرجع تعقيدها الى تلك الحقيقة عينها الماثلة في عدم وضوح معانيها على نحوٍ مباشر، أي أنَّ إدراكها لا يتم إلا عن خطواتٍ من خلال مبادرات ومراجعات وتخمينات وتساؤلات”  وإنَّ غموض مصطلح التخييل يعودُ الى حيويته وقابليَّة توظيفه ومرونة معانيه، لا سيما أنَّ مناهج التفسير كثيرة ومتداخلة أحياناً فالصورة الحسيَّة هي وجودٌ ماديٌ محسوسٌ تستقبله حواسنا عندما نرى أو نسمع أو نلمس أو نشم أو نتذوق وتقوم حواسنا برسم ملامح عالمنا بأجمعه ومن لحظة التماس بين الحواس والبيئة، أما عمليَّة تنشيط الخيال فما هي إلا “عمليَّة تدريب وتجريب بحكم ارتباطها بآليَّة التفكير” وعندما تنطبع صور المحسوسات في الذاكرة يصبح لها حضور ذهني فاعل.

يرى باشلا أنَّ “الصورة المتخيلة بوصفها مزيجاً لا ينفصل من الصورة المدركة والصورة المبدعة، بمعنى أنَّ الخيال يستمدُّ من الواقع ولكن على نحوٍ يبدع فيه”   لقد أصبح الموضوع الواقعي صورة يُنظر إليها بوصفها مجموعة تغيرات وتنوعات للأشياء الماديَّة الأساسيَّة، أي أنَّ الخيال يؤسس الصورة الذهنيَّة النموذجيَّة لدى المصمم من خلال إظهارها والكشف عن باطنها، وفي ضوء ذلك يمكن تعريف الصورة الذهنيَّة على أنها “معنى كاملٌ يكونه قصد يستند الى معرفه”  ولا يمكن أنْ يكون لها وجودٌ من غير المعرفة التي تؤلفها، كونها تتصل بعلاقة شكليَّة بمرجعها من دون مطابقتها، بمعنى أنَّ (الشجرة) التي نجدها بكثرة في الطبيعة هي وجودٌ ماديٌ متحققٌ لها أوراق وأغصان وساق وجذور وثمر ولون وطعم ورائحة وملمس وهي زائلة أي لها عمر محدد وتفنى من بعده، أما صورتها الذهنيَّة في الذاكرة فهي ليست من كل ذلك في شيء. وهنا نؤشر حالة بالغة الأهميَّة مؤداها أنَّ الانتقال من صورة الشجرة الطبيعيَّة الى الصورة الذهنيَّة للشجرة في الذاكرة قد حقق حالة تجريد جذري في المرجع ولم يبق منها إلا الصورة فقط، وتتصف بكونها فاعلة في عمليات التخيل والتفكير من خلال قابليتها على التحلل والتشكل وبمنتهى المرونة وبمجرد تفعيل آليات المخيلة يتمُّ التعامل مع الصور الذهنيَّة بالضبط كما يتمُّ التلاعب بالصور ومعالجتها.

والسؤال: كيف يقوم المصمم بعمله التخيلي؟ وهل تنحصر صفات العمل التصميمي في الاستحضار أو الاستعارة، أم أنَّها تتجاوز ذلك عن طريق إعادة تشكيل المدركات وبناء عالمٍ متميزٍ في تركيبته، وما هو التأثير الذي يحدثه المصمم في مخيلة المتلقي؟

إنَّ طبيعة التخيل لدى المصمم تعتمد اعتماداً كلياً على المحسوسات أنَّه لا يستطيع التعامل مع أي شيء لا يملك شكلاً محسوساً، إنه يستمد عناصره من الوجود ويركبها تركيباً جديداً “فنجده يتدخل ويخترع، أو يكشف نظماً وعلاقات جديدة، فهو يتكامل مع مادته حتى يصل الى صياغة في شكل أفكار وصور ورموز” ( ) لأنَّ العالم المرئي ليس سوى مخزنٍ كبيرٍ للصور والإشارات التي تظل بحاجة الى من يكتشفها، الى أنْ يأتي خيال المصمم ويهيئ لها مكانها، فالتخيل إذاً هو “تأليف صور ذهنيَّة تحاكي ظواهر الطبيعة إنْ لم تعبر عن شيء حقيقي موجود”   وهو لا يستعين بالواقع الحسي لذاته بل يتجاوز ذلك لأنَّ الحسي مجرد أفكارٍ ذاتيَّة، والأفكار الحسيَّة واقع حسي لدى المصمم من خلال توظيفه بصرياً.

وتأسيساً على ذلك يمرُّ الخيال لدى المصمم بمراحل كثيرة أولها مرحلة التصوير الذهني وهي المرحلة التي يتم فيها استحضار الصور الحسيَّة “فمكونات عمليَّة التصوير وخاصة تلك التي تشتمل على جانب كبير من الخيال، هي المصدر الأساسي للإبداع، وان الخيال هو عمليَّة نشطة لتكوين الصور وتحويلها ودمجها في عقل المصمم من خلال الوسائط التي يستخدمها في فنه”  من خلال الرؤية الذاتيَّة الحسيَّة التصوريَّة التي مصدرها فكر المصمم لامتلاكه صفة العقل حيث يأتي الخيال على شكل افكار في عرض تسلسلي يتفاعل في ما بينها.

وثاني المراحل التي يمر بها الخيال في أثناء العمليَّة الإبداعيَّة مرحلة التخمر، في هذه المرحلة تتجمع المحسوسات على سطح الوجدان ثم يشرع الخيال في فحصها حتى تتكون الآراء حول علاقة المحسوسات ببعضها حتى يتكون الفكر الناشئ للخيال في صورته الذهنيَّة، لأنَّ الخيال في جوهره هو فعل التصور بمحوريَّة الاستعاري والتجاوري  وتتميز هذه المرحلة في حركيَّة الذاكرة، أما الخيال فمهمته تنحصر في محاولة تفهم العلاقات الفكريَّة بين المحسوسات، وثالث المراحل التي يمر بها الخيال لدى المصمم هي مرحلة التشكيل وفي هذه المرحلة يقوم الخيال بالتركيب ثم ولادة شكل جديد.


الشكل  - 1 -

إعلان عن محطة راديو، لقد شكل المصمم نوعاً من المفارقة، تقوم على استبدال البصر بالسمع حين يقوم المعنى السمعي بجهاز يوفر طاقة الدلالة البصريَّة.

هنا أحدث الشكل انحرافاً في التلقي وفي التغريب، إنَّ الشكل الإنساني قد أعيد أو استعيد بطريقة إزاحة عن المألوف في مرجع صورة المرأة. 

وعمد المصمم الى تشويه بصري للمرأة 

(شعر مجعد عيون على شكل اذان اسنان مشوهة)... ملابس رثة.

إنَّ هذه المنظومة تريد أنْ تقمع المشاهدة عند المتلقي لصالح السمع (اسمع لا ترى) ورغم الانحراف في الشكل يبقى الإعلان مبنياً على تصورٍ خيالي في استدعاء شكلٍ قائمٍ على تصور ذهني ثم تحقيق تركيب خارج المألوف والعادي.