مصطفى الحلّاج.. فنان النضال الفلسطيني

ثقافة 2023/11/05
...

 علي العقباني

لم يكن مصطفى الحلّاج مجرد فنان عابر في التاريخ الفني الفلسطيني العربي، فقد جسّد عبر لوحاته الكثيرة طباعة وحفراً ونحتاً من خلال رموز فلسطينيّة مستمدّة من الأساطير الكنعانية القديمة والحكايات الشعبية والعديد من رموز الثقافة، كذلك استفاد في لوحاته من الحضارة الفرعونية "فقد عكست إقامته في مصر خمسة وعشرين عاماً، تأثره بالحضارة المصرية"، والفينيقية، فمن فلسطين إلى مصر وبيروت ثم دمشق عاش الحلّاج حياة مشبّعة بالنضال والفن، مليئة بغبار اللحظة ورماد الأحلام المجهضة، ناقلاً ملهاة الشعب الفلسطيني في لوحات ذات شخوص غرائبية ورموز متنوعة وعوالم مبتكرة، حاملاً قضيته في روحه أينما حل (لأنّ من يرتبط بمعاناته الحياتيّة ويكون خليّة حيّة في جسد أمّة، لا بدّ أن
يعبّر عنها بوعيه الخاصّ).
ولد الحلّاج الذي يُعد من أهم رواد الفن التشكيلي الحديث عام 1938 في قرية سَلَمة قضاء مدينة يافا، ودرس الإعدادية في القاهرة، وحصل على الثانوية العامة في محافظة الشرقية بمصر عام 1957، ثمَّ التحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وتخرّج من قسم النحت عام 1963، كما قال (درست النحت عن رغبة، لأنني كنت ذاهبًا من أجل دراسة النحت
والعمارة.
فالعمارة هي أمُّ الفنون، كلّ الفنون.
درست النحت لأنني من خلاله أستطيع أن أرى الشيء من 360 درجة). أقام الحلاج بعد تخرجه معرضا فرديا لأعماله النحتية في القاهرة عام 1964، وبعدها التحق بقسم الدراسات العليا بمراسم الأُقصر وتخرج منها عام 1968، وقـد أسهم في معظم الفروع التشكيلية (النحت، سيراميك، خزف، حفر في الخشب، رسم بالزيت والأواريل).
غادر الحلاج القاهرة في أوائِل السبعينات، حيث عاش متنقلاً بين بيروت ودمشق. وفي هذه المرحلة اهتم بما يمكن تسميته بالبوستر الثوري والحضاري والنضالي، مارس فن الغرافيك مبكراً، مثلما مارس الرسم والتصوير، وله مساهمة في فن الملصق(البوستر).
ومن أهم أعمال تلك المرحلة لوحة معركة الكرامة وهي حفر على المازونيت أنجزها عام 1969، إذ يتذكر (عندما كنت في القاهرة والأقصر، أرسم الألم، الهجرة، الطرد وحلم المستقبل.
وعندما جئت إلى سوريا عام 1966 وُلِدَ في حياتي أوّل إيقاع فلسطينيّ في العمل الفنّيّ).
شكلت بلاده ونضالات الشعب الفلسطيني عبر التاريخ  أبرز مواضيعه التي حرص من خلالها على تلخيص تاريخ شعبه بين القرن الحادي عشر والوقت الحاضر، مركّزاً على الإنسان الثابت في عمق تاريخه وجغرافيته وإنسانيته.
بعد سلسلة تنقلات متعبة خسر فيها عدداً كبيراً من لوحاته استقرّ في العام 1983 بدمشق. وعمل مديراً لصالة ناجي العلي للفنون التشكيلية.
حاز على العديد من الجوائز التقديريّة المتصلة بفنون النحت والطباعة اليدويّة التي ابتكرها وأمسى بذلك مرجعية تقنية وجمالية للعديد من التشكيليين العرب.
كان عضوا فاعلا في اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين والعرب ومن المؤسسين الأوائل.
وخلال سنوات حياته شارك الحلاج في العديد من المعارض الفرديّة والجماعيّة في عدد من الدول العربيّة والأجنبيّة، وقد استحق خلالها جوائز الميدالية الفضيّة في معرض "فلسطين" بالقاهرة عام 1961، وجائزة النحت في الإمارات عام 1995، والجائزة الذهبيّة في مهرجان المحرس تونس عام 1997، والجائزة الأولى في الحفر في "مهرجان المحبة" باللاذقية عام 1999، كما أسهم في تحكيم عدد من المهرجانات التشكيليّة والمسرحيّة والسينمائيّة.
خلال حياته وتجاربه الفنية الغنية، استند الحلّاج الذي لُقب بشيخ الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، في أعماله إلى التراث الفلسطينيّ بمختلف رموزه وتجلياته، وبكلّ ما فيه من غناء وحكايا وعادات وزخارف وفلسفة شعبيّة، واستعان بالأساطير والحضارات القديمة، تحديدًا السومريّة والكنعانيّة والفرعونيّة، لينسج منها عوالم ميتافيزيقيّة مليئة بعلاقات تشكيليّة واقعيّة ورمزيّة ترتكز على خصوصيّة تأمّله للحالة الفلسطينيّة بكلّ أحداثها التاريخيّة.
عكف الحلاج قبيل وفاته على انتاج لوحة غير مسبوقة مكنته من دخول موسوعة غينس وتلخص هذه اللوحة التي هي عبارة عن عمل ملحمي كبير مسيرته الفنية ومعاناته كلاجئ واطلق عليها اسم (ارتجالات الحياة) بلغ طولها 98م وعرضها 60 سم، وقد رسم نفسه كل عشرة أمتار يصور نفسه شاهدًا على الحياة.  
توفي مصطفى الحلاج في 15 /12 / 2002 عندما كان يحاول انقاذ الأجزاء الاخيرة من لوحته (ارتجالات الحياة) بعدما شب حريق في منزله بدمشق، وكان الحريق أتى على الرسام ومعظم أعماله الفنية التي لا تقدر بثمن.