د. جواد الزيدي
صدر عن مجموعة الإبراهيمي الفنيّة كتابه الجديد الموسوم (إضاءات على تاريخ وتطور الحركة التشكيليّة العراقيّة)، وهو نماذج من مجموعته الخاصة، تم تصنيفها على الأساس الجيلي، وقد أصدر قبل هذا جزءا من تلك المجموعة اختصّ بالريادات الفنيّة في العراق، وألحقه هنا بحقبة (الخمسينيات والستينيات) ووضع له عنواناً شارحاً (براءة التمرد وواقع التجريب).
ولم يكتفِ بمصورات الأعمال التي بدأها بفهرس يشير إليها ووجودها على صفحات الكتاب، بل حاول أن يضع ما يلخص التجربة ويمنحها توصيفاً جماليًّا ضمن سياقها التاريخي والجمالي.
وإن كل معلومة ترد في صفحاته سوف تكون باللغتين العربية والانكليزية سواء في النصوص النظرية التي تضمنها متن الكتاب، أو شروحات صور الأعمال، فضلًا عن المقدمة والإهداء، وهو جزء من حركة التوثيق والتعريف بالفن العراقي التي تتخذ اتجاهين، أولهما الاشارة الى عائدية هذه الأعمال للمجموعة المهمة التي يمتلكها الابراهيمي نفسه، والثانية تكمن في توثيق وتأصيل الحركة التشكيلية العراقية بمجمل تجلياتها، حيث نفتقد للكثير من المعلومات وأمكنة اللوحات والمنحوتات أو القطع الخزفية، حتى أن الكثير من منتجي الخطاب الإبداعي الفني يفتقرون الى هذا التوثيق لأعمالهم الخاصة ولم يولوه العناية الكافية، وغياب المؤسسة التي توكل إليها هذه المهمة.
ولعل هذه الالتفاتة المهمة التي قام بها الدكتور الابراهيمي تقف في مقدمة المحاولات الذي يراد منها الحفاظ على الملكيات الخاصة والعامة، بوصفها ثروة وطنية لا يمكن التفريط بها بأيِّ شكل من الأشكال، إذ يشير في المقدمة، "بأن هذا الكتاب يُمثل عينة لنتاجات مئة عام من الفنون التشكيلية العراقية، ومقارباتها مع ما أنتجه الفنان الرافديني، وهي كذلك مشاهد من حروب ونزاعات وسجالات ونشاط وعمل تتوج بفعلٍ إنساني في معترك هذه الحياة، سواء كانت فاتنة وجليلة أو محيرة تصاغ في نسيج هذا الكون الشاسع لتترك أثرًا وتحفر ذاكرة وتنحت أملًا وترسم مستقبلًا".
إذًا هي وثيقة لتاريخ الوطن وإبداعه ورؤية فنانيه لصورة المستقبل وأحلامهم بوطن مسالم آمن يحتوي الجميع.
فضلًا عن هذا فإنّ الكتاب تضمن مقدمتين، كتب الأولى الفنان الراحل الدكتور بلاسم محمد التي جاءت بعنوان (مجموعة الابراهيمي، ذاكرة الفن العراقي) مستعرضًا فيها أهمية التدوين في الثقافة الإنسانيّة وعلاقتها بالفعل التداولي، مع التجليات الأولى لبنية هذا المشروع وبداية تطلعاته في تسعينيات القرن العشرين والأمل في جمع شتات الأعمال الفنية العراقيّة الموزعة بين مدن وعواصم مختلفة، من منطلق أن الفن العراقي عبر تاريخه الطويل لم تتوفر له فرصة لتمثيل حضوره في التداول الفني والاهتمام بالتواصل أو محاولة دراسة كيفيات وجوده وحضوره في المجتمع وطرائق استهلاكه.
وهي محاولة مثلها مثل أي محاولة تبدأ بالنسبي ثم تكبر لتصل الى ما وصلت إليه الآن من عينة ممثلة لجميع الحقب الزمنيّة، والأساليب، والمدارس، والأجناس التي تنضوي تحت مسمى التشكيل.
أما المقدمة الثانية فقد دوّنها صاحب المجموعة (حسنين الابراهيمي) ووسمها (الفن بوابة المعرفة) مستعرضًا فيها بدايات الفن الحديث منذ عصر التنوير وما تلاه، بوصف الفن العراقي يقع تحت هذه الحاضنة الجمالية، وارتباط الفكر الإنساني بطرائق التعبير الفنية تماشيًا مع التوصلات التقنية والابستمولوجية.
بعد ذلك تم تصنيف الكتاب الى جزأين، تضمن الأول منه (تشكيليون من جيل الخمسينيات) والذي بدأه برائدة الحروفيَّة الأولى في التشكيل العربي (مديحة عمر) مستعرضًا شيئًا من حياتها وما قيل عن فنها كتبه نقاد ومدوّنون عبر حياتها المهنيّة مع ممتلكاته الفنيّة لها التي تضمنت أعمالاً من تجربتها الأولى الانطباعيَّة وصولًا الى مجهوداتها في توظيف الحرف العربي في اللوحة
المرسومة.
ليأتي على جيل الريادات الفنيّة وما بعدها، على مستوى النتاج الفرداني أو على صعيد الجماعات الفنيّة التي أسهمت في صياغة ما ندعوه اليوم (هوية الفن العراقي) مثل (بهجت عبوش، وحافظ الدروبي، وصديق أحمد، وفرج عبو، وجميل حمودي، وخالد الرحّال، وقحطان عوني، ورسول علوان، وناظم رمزي، ويحيى جواد، وشفيق الكمالي، ووداد الأورفلي) وغيرهم، ولم يكتفِ بعرض سيرة هؤلاء الفنانين، بل أسند إليها ملحقاً مصورًا من أعمالهم الفنية التي يمتلكها هو نفسه.
كما أنه وضع حواشيًا يُكمل فيها سيرة بعض الفنانين من جيل الخمسينيات تعزيزًا للجزء الأول من السلسلة، يتضمن أعمال (جواد سليم، وفائق حسن، وخالد الجادر، وشاكر حسن آل سعيد، ونزيهة سليم، وشمس الدين فارس، ومحمد عارف، وصالح الجميعي).
بينما اشتمل الفصل الثاني على سيرة الرعيل الأول لجيل الستينيات ومنجزاتهم، الذين ولدوا بين عامي (1930 - 1938) تحديدًا ويقصد بهم (نجيب يونس، وكاظم حيدر، واسماعيل فتاح الترك، ومحمد علي شاكر، ومظفر النواب، وحميد العطار، وسامي حقي، وسعد الطائي، وغازي السعودي، وطالب مكي، ومحمد مهر الدين، ومعاذ الآلوسي) وآخرين بكل تأكيد ينتمون لهذه الحقبة في الولادة وبداية ستينيات القرن الماضي في النتاج الفني.
ولعل التوافق بين تأطيرات السيرة والمتون النقديّة التي رواها نقاد ومعاصرون من جهة، والوثائق البصرية عالية الجودة، أسهمت في وضع المادة المعروضة في الكتاب بموقع الأهمية التاريخيّة، والريادة في توثيق هذه النتاجات من حيث اقتناؤها والحفاظ عليها، وثانية من جعلها وثيقة تداوليّة بين يدي الأجيال المتعاقبة لتصفحها ورواية ما أنتجه الأسلاف تيمنًا بمبدأ الانتماء لهذا التراب والتاريخ بكامل معطياته.
إنَّ هذا الكتاب (المتحف) المتجول يفتح باب التطلعات وآفاق التداوليَّة، ويمنح الآخر التجوال في المتحف وهو في جغرافيته من دون عناء الذهاب الى الأصل المكاني ويقدم تأملاته الفكريّة حول ما تم إنجازه عبر قرن كامل بفعل تأصيل التجربة والنهل من منابعها التاريخيّة المحليّة، أو ما جاءت به نُظم الحداثة الأوربيّة والدمج بين هذا وذاك للخروج برؤية توسطية تتسم بروح المحليّة.
وانطلاقًا من مبدأ الأمانة العلميّة والإيثار فقد تم ذكر جميع المصادر التي رفدت الكتاب بالمادة النظرية والصورية، والإشادة بكل الجهود التي ساعدت في وجود هذه المجموعة على أرض الواقع كل بحسب قدرته وإمكانيته.