حين يكون الأسود رحماً ولوداً

ثقافة 2023/11/15
...

 جبّار الكواز

تشكل مجموعة الشاعر ريسان الخزعلي «نزهة في السواد» الصادرة عن منشورات الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2022 علامة فارقة في الشعريَّة العراقيّة باشتغالاته المميّزة على مستوى الشكل الشعري وآليات كتابة النصّ الوجيز واستغراقها العميق في كيميائية اللون وتحولاته الجمالية التي تستوعب الواقع وتنطق في نصوصها رؤاه الفنية وانعكاساتها على ثيمة النصوص وإشكالياتها التداولية والمفارقة لاستثمارها شعرياً، والمتابع لشعر الخزعلي يكتشف عمق شخصيته المعرفية وسعة قدراته الموسيقية التي يطوعها في إنتاج نصوص استثنائية في كل شيء و”نزهة في السواد”.
تواجه المتابع الحصيف مواجهة علنية مبطنة بجوانيات شعرية متعددة الاتجاهات والرؤى إلاّ أنها تصب في سيرورة الخط الإبداعي الذي اعتمده الشاعر مستثمراً قدراته التخيلية وإدراكه العميق لأثر اللون في الإفصاح عما يمكن أن يقوله في باطنه الموّار بالصراع والتشكل القيمي لصناعة واقع ثانٍ منتمنٍ لواقعه الأول إلاّ أنه مفارق له في آنٍ واحد.. شكل نصّ الغلاف الأخير للمجموعة الشعريّة الذي يقول فيه ( ما/ كان السواد لوناً إنّــه/ عثرة الضوء/ على عيون المعرّي) فهذا النص الوجيز سنّ لقارئ المجموعة رؤية خاصة ستكون هي المحور الجمالي والمضموني لأكثر نصوص المجموعة ففي عشر كلمات شكلت هذا النص الوجيز تتكشف الرؤيا الخاصة للون الأسود إلى رؤية جمالية خاصة، فالشاعر هنا إذن لا يتعامل مع (السواد) بوصفه لوناً وإنما هو اختصار لحياة خلقت من عثرة الضوء على عيون المعرّي، أية فكرة كونية اهتبلت مخيالاً واسعاً عند الخزعلي فأنتجت رؤية شعرية شكلت منطلقاً عاماً للتعامل مع السواد بوصفه لوناً مؤازراً بالحزن والأسى والفقد، شكلت المثابات الثلاثة لنصّ الغلاف الأخير وهي (السواد/ عثرة الضوء/ عيون المعرّي) الأساس لقراءة عادلة ومنصفة لنصوص المجموعة فهي أقصد المثابات صاغت في رؤية واحدة لأمة وجامعة للنصوص من خلال النصّ الأول للمجموعة وهو نفسه نص الغلاف الأخير.
هذا الاحتضان العميق للنصوص بين نصّ وجيز تكرر في افتتاح المجموعة وختامها يشي بشيء من السرانية التي يتعامل معها الناس وهم يعيشون السواد تاريخياً وحضوراً ومستقبلاً ودليلي على ذلك أن الشاعر تعمّــد بوعي إلى هذا الترتيب الشكلي للنصوص فأراد أن يؤكد مضمونه مجموعة (نزهة في السواد) ليخلق خلخلة مضمونية ورؤيوية بين سواد طاغ مستوعب الحياة العراقية قديمها وحديثها وناقلاً المعنى التداولي للسواد إلى نزهة مخلّقة له، ليفتح باباً تأويلياً لم يلتفت إليه الشعراء قبله حين وصّــفه في آخر مجاميعه الشعرية
المميزة.
على كثرة نصوص المجموعة وغزارة رؤاها الإبداعية الكاشفة عن رؤية يقينية مدافة بمخيال سامٍ كان السواد فيها منطلقاً لكشف عوالمها المعلنة والمخفية بكلّ ما تحمله من رؤى متضادة أحياناً ومتآزرة حيناً فالأسود كلون سار بذاته الاكتشافية ليظهر مكمن السرانية في تشكيل النصوص وحقق منزلته الكبرى كلون تداركي مُتشظٍ إلى مجاوراته من الألوان الأخرى وإلى معانٍ مستحدثة فيبدو اللقاء به وبحضوره المتشكل وسط غابة الألوان العراقيّة المعتمة تمثيلاً (لنزهة) وطنية لا تحمل قيمتها وتأثيراتها على الناس إلاّ في انبثاق جوهره المركزي وهو سلمّ الحيوات والأشكال والتاريخ وتشظياته والحياة العامة وإشكالاتها فيكون التشظي في النصوص أداة لامة لأوجاع الناس عبر التاريخ القديم والحديث والشاعر بذلك حقق مبتغاه في التعامل مع السواد كلون معبر عن الحياة العراقية بكل إخفاقاتها ونجاحاتها وعبّر من خلال ذلك على مقولة بلاشير (العنوان ثريا النصّ)، فالنزهة المستغرقة بسوادها المنفلت من خلال الألوان الأخرى هي صرخة الضمائر العراقية الأصيلة في التعامل بقوة الحزن ومعانيه الجليلة لتلوين الواقع بالسواد فقديماً نعت الفاتحون العرب بلاد ما بين النهرين بــ (أرض السواد) ومن هنا يخترق السواد تاريخياً مضمونه التداولي إلى مضمون أعمق حين يلمّ الأمس واليوم والغد في دورقه الذي تلبد في زجاجته آفاق الأحزان العراقيّة كلها.  
ومن خلال متابعة إبداعية جادة وواعية ومستبصرة بعمق لنصوص المجموعة يمكننا أن نقول ما يأتي: شكلت بانوراما السواد العراقي آصرة الرؤى الجمالية المتعاضدة معاً في سبيكة السواد لخلق لون أسود بوصفه رؤيا حياة متعددة الكشف وعميقة التشكيل في وعي الشاعر ولو تابعنا عنوانات النصوص لوجدنا مصداقية ذلك في ظهور السواد كمسمّى علني أو سري أو كإشارة عابرة أو غاطسة في لجج الجمل الشعرية أو كانزياح لغوي تشكل بتجاوز كلمتين تنتجان السواد معاً أو كذاكرة تاريخية أو كشاهد علني ظاهر في طبيعة الحياة أو حادث ما أو مشاهدات عابرة، فالأسود في هذه المجموعة يخرج عن دائرة انتمائه اللونية كلون أساسي إلى الدائرة التأويلية المتعددة الرؤى والمفاهيم والأعراق والآراء.
ولتأكيد ذلك فإنني اخترت النصّ الذي حظي بعنوان المجموعة لأنني أراه مصداقاً لذلك يقول الخزعلي (حين أثقلنا/ خيطُ/ هذا/ السواد/ السواد البلاد/ البلاد الرماد/ .../ في ظلال القصب/ يوم ضاقت بنا/ والنساء ثياب السواد/ خضراً لبسنا ثياب الحداد) هذا النصّ الفريد الذي تتجلى فيه روح المجموعة كلّها بتشظياتها المقصودة وتفرعات المسكوت عنه وتأويلاتها اللامة للواقع العراقي الإشكالي الذي نعيشه أبدياً، فالسواد في النصّ صار محض خيط اقترن بالبلاد وتسلسل أحزانها فهو خدين الرماد حيناً فما بين السواد والرماد أواصر أكثر من كيمياوية اللون لأنه عالج ضيق بلاد القصب بثياب السواد فانقلبت ثياب الحداد بقصدية واضحة إلى اللون الأخضر رمز النماء والولادة والبذل ووفق هذا الأساس فالسواد الذي أريد به تاريخياً وصف حياة العراقيين بتأثيرات تركيز خضرة آفاق البلاد المتخمة بخضرة بساتين النخيل. السواد هنا أصبح المحرك الكيمياوي والميكانيكي والتأويلي ليكون رمزاً للنماء وللحياة وللموت معاً ولو قرأنا كلّ نصوص المجموعة صغيرها وكبيرها للمسنا هذه الإشكالية الطهرانية التي شكلت وفق أبعادها الكيمياوية والميكانيكية والتأويلية لإسباغ الحياة بلون أسود يحمل نقاء الألوان رغم عتامته فهو اللون الأسود المخضر، هكذا كانت البلاد عبر تاريخها حزناً مدافاً يتطلع لبناء حياة مثلى ومن هنا حقق الخزعلي رؤية مستجدة لطبيعة تعامله تأويلياً بتشظي اللون ليكون السواد أباً للألوان الأخرى بل رحم ولودة لها في تطلعها لبناء الحياة الجديدة التي أكدت عبر تاريخها الذي صار سواده رمزاً لابتعاثها
 وتحقيق ذاتها.