سخرية أريستوفانيَّة قديمة وحديثة في {مثلث الحزن}

ثقافة 2023/11/20
...

  باسم سليمان

 في إحدى مسرحيات اليوناني أريستوفان تمتنع النساء عن ممارسة الجنس، كي يجبروا الرجال على قبول السلام. وفي مسرحية أخرى يقنع أحد الإغريق الطيور أن تشكل سربا يحجب السماء، فلا يصل دخان الأضاحي إلى آلهة الأولمب فتجوع، وتخضع لرغبة البشر. عبر هذه الكوميديات فضح أريستوفان هشاشة المبادئ والقيم والأنظمة والأيديولوجيات التي تبنى المجتمعات البشرية عليها. هذا النمط من التهكم يعتبره المخرج السويدي روبين أوستلوند أساسًا في رؤى أفلامه من ( القوة القاهرة) إلى (المربع) وفيلمه الجديد (مثلث الحزن/ Triangle of Sadness  (2022)، الذي نال عنه السعفة الذهبية في ذات العام. 

يحكي الفيلم في الجزء الأول منه قصة عارض الأزياء (كارل) والمؤثرة/إنفلونسر (يايا)؛ من خلال الصراع الجندري بينهما، فما دامت الأنثى قد نزلت إلى حلبة الانتاج الاقتصادي بعيدًا عن دورها القديم في البيت، فهل ستظل العلاقة القديمة كما كانت بين الذكر والأنثى؟ يطالب كارل بالمساواة مع يايا في الواجبات والحقوق، وهي تطالبه بدوره القديم كذكر. والميزان الجديد المعتبر في هذا الجدل؛ هو المدخول المادي لكل منهما، فلم تعد قدرة المرأة على الإنجاب، ولا ميزة الرجل كحام للأنثى معيارًا تقاس به الأدوار الجندرية. 

بعد أن نكتشف أنّ الأدوار الاجتماعية للذكر والأنثى، قد فرضها النمط الاقتصادي، لا الخصائص البيولوجية، ينقلنا روبين إلى سفينة فاخرة ركابها من الفاحشي الغنى، حيث يتواجد كل من يايا وكارل. تصرّ إحدى النساء الغنيّات على أن يسبح جميع العاملين في السفينة ويتركوا أعمالهم، مع أنّ كبير الطهاة حذّر من أنّ ذلك سيؤدي إلى فساد المأكولات البحرية. في الوقت ذاته كان القبطان ذو الميول اليسارية يسكر في قمرته، تاركًا أمر إدارة السفينة لمساعديه. يرينا المخرج كيف أنّ الأغنياء يشترون كل شيء، فمن تاجر السماد؛ وكما يسمي نفسه ملك الغائط، إلى تاجر الأسلحة النووية، إضافة إلى غني آخر من محدثي نعمة الثورة التكنولوجية، الذين يمثّلون القواعد القديمة/ الحديثة، التي تحكم المجتمع البشري عبر الطعام والقوة والذكاء، المال هو الإله. وكما تجري العادة عند بدء الرحلة البحرية، يقام احتفال يرأسه القبطان احتفاء بضيوفه الأغنياء، فيقدّم لهم الطعام البحري الفاسد، فتتحوّل الحفلة إلى بركان من القيء والغائط نتيجة التسمّم، فيما كان ملك السماد الشيوعي الألغارشي يتناوب مع القبطان المخمور على ميكرفون السفينة، ويلقيان على مسامع الأغنياء المصابين بالتسمم مقتبسات من ماركس وغيره من المفكرين، بينما تتأرجح السفينة تحت وقع عاصفة في الخارج. في هذا الواقع المجنون تفيض مجارير السفينة ويتدفق الماء المالح والآسن بين ممراتها، حيث يتزحلق الجميع متمرّغين بالقذارة، وكأنّنا مع مشهد من جحيم دانتي. يقترب أحد قوارب القراصنة من السفينة لينتهي المشهد بغرق السفينة. 

اختلط حابل ونابل العوالم من الأول إلى الثالث في الجزء الثاني، بينما نرى بعض الناجين من السفينة على جزيرة مهجورة في الجزء الثالث. لقد عادوا من جديد إلى العصر الحجري حيث القدرة على إشعال النار والصيد يعتبران عاملين حاسمين في البقاء على قيد الحياة. وهنا تصبح إحدى عاملات تنظيم المراحيض في السفينة هي القائدة، فلا قيمة للمال أو الجواهر، حيث تبدأ باستغلال عصبة الأغنياء الناجية وضمنًا يايا وكارل، الذي يبيع جسده لعاملة المراحيض من أجل الطعام. 

تغيرت آليات الاقتصاد، وعاد نمط التبادل سلعة مقابل سلعة، فتبدلت الأدوار الاجتماعية وانحدر الأغنياء إلى طبقة الفقراء والمأمورين، في حين صعدت عاملة المراحيض إلى القيادة، بينما يايا وكارل يترنحان في هذا العالم الجديد، كما حدث مع خبير المعلوماتية، الذي قتل حمارًا عبر ضربه بحجر على رأسه كإنسان الكهف. تقرر يايا اكتشاف الجزيرة لربما هربًا من (أبيغيل) عاملة المراحيض، التي استولت على حبيبها كارل، الذي عاد إلى أقدم مهنة في التاريخ، كي يشبع بطنه ويؤمن ليايا الطعام. ترافق أبيغيل يايا في استكشافهما الجزيرة وعندما يكتشفان أنّ في الجزيرة منتجعًا فخمًا، يظهر لنا روبن أنّ أبيغيل على وشك قتل يايا عبر ضربها بصخرة، من أجل ألّا تفقد المميزات، التي حصلت عليها وإبقاء الجميع على قناعة بأنّهم في جزيرة مهجورة. يختتم الفيلم بكارل يركض عبر أحراش الجزيرة، لربما لأنّه تيقظ إلى ما تضمره إبيغيل نحو يايا، فيحاول اللحاق بهما وإنقاذ يايا، أو أنّه كان يهرب من عبوديته.

"مثلث الحزن"، هي السمة التي تظهر في جبين الكائن البشري نتيجة لحزنه، وعادة ما يطلب من عارضي الأزياء إخفاؤها.