الـماوريون وبيـت الأَسلاف

ثقافة 2023/11/28
...

 باسـم فـرات

 

قلتُ لماهوتا ونحن الآن في الـمراي (بيت الاجتماع، أو بيت الأسلاف) هل بالإمكان أن تحدثني عنه، فمثلك خير مَن يُسأل؟ تَبَسَّم ماهوتا ابتسامة شعرت معها زهوًا سرى في جسمه وروحه.

ــ سأتحدث ببطءٍ كي تستطيع التدوين، سأجعلك تملأ دفـتـرًا بما يوازي حجم كتاب، عن "آوتِــرِوّا" وطني الجميل الـمظلل بحنو آلهتنا الكريمة.

ــ أشعر بالامتنان لما تقدمه لي سيد ماهوتا، فعلًا لدي رغبة أن أنجز كتابًا ثانيًا عن "آوتِــرِوّا" باللغة الـماورية، وزي الجديدة "نيوزلندا" اسمها الأوربي الذي منحه لها الهولنديون. كانت نظرة ماهوتا غير مفهومة بالنسبة لي، لكنه كان بيت الاجتماع هو بيت رئيس القبيلة، وهو أهم بيت في القرية، وحين جاء الأوربيون اتضح تأثيرهم في الـماوريين، فتم بناء الـمراي وهو عبارة عن بيت رئيس القبيلة، وبيت الاجتماع والمطبخ والمرافق الصحية، والساحة الأمامية التي هي ساحة استقبال الضيوف، وفي حين كان الفنان الـماوري يستعمل أدوات النقش على الخشب من الخشب نفسه، صار يستعمل أدوات النقش من المعادن، وأدخل الألوان إلى الـمَراي، إذ إن الـماوريين لم يعرفوا الألوان قبل مجيء الأوربيين، لكن هذا لا يعني عدم تأثر الأوربيين "البريطانيين" بفنون الحفر على الخشب الـماورية، فأصبح بعضهم يضع على أعمدة أبواب بيوتهم الخشبية النقوش الـماورية، وكذلك على سور "حاجز" السلالم.

إنَّ بيت الاجتماع أهم مكان في الـمَراي، وتكمن قدسيته في أنّه يمثل جدث السلف، الأماكن الأخرى في الـمراي مثل المطبخ والحمام والمرافق الصحية منفصلة عن بيت الاجتماع، والناس يمكنهم قضاء الليل في الـمراي، وفي المراي تتم فعاليات اجتماعية عديدة مثل الزواج والعزاء والتعميد وفعاليات التعليم من تعليم اللغة إلى تعليم الطرق الناجعة للتخلص من الإدمان على الدخان أو الخمور أو المخدرات وما إلى غير ذلك. واسم بيت الاجتماع في اللغة الـماورية هو "فارَيْ تيبونا" ومعناها "بيت الأسلاف"، ومن المؤثرات الأوربية على "عمارة" الـمَراي وبيت الأسلاف، 

السقوف الـمائلة الحادة، والشبابيك الداخلية كما نراه في كثير من الكنائس في الغرب، لا سيّما المناطق التي يهطل عليها الثلج 

مدرارا.

في عام 1914 ميلادية، تم ابتكار "بيت أسلافٍ" جديدًا، وذلك في أقصى شمال الجزيرة الشمالية  في بلدة "دارغافِل" (الفاء أعجمية) التابعة لمقاطعة "كايبارا" التابعة لمحافظة "أرض الشمال"، ولكن هذا الابتكار الجديد الذي نظر له الـماوريون المحليون بوصفه غريبًا، بسبب طرازه المعماري "ذي السقف المائل الحاد" والدهان "الصبغ" الـملوّن إذ لم يألفوا آنذاك هكذا طرازًا معماريًّا كهذا لبيوت الأسلاف، ولكن بعد سنوات 

أصبح الأمر مقبولًا بل ومعمولًا به.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبح "بيت الأسلاف" أكثر الأمكنة أهمية في كل قرية ماوْريّة. وخلال الـمِئتي سنة الأخيرة، تنوعت عناية فناني الـمَراي، فبعضهم يجعل نحته مركزًا على الماضي أي الأسلاف والأساطير، وبعضهم تنصبّ عنايةُ نحته على الـمستقبل، بحسب الحقبة الزمنية؛ والنظرة الأولى لبيوت الأسلاف، توحي بأنها متشابهة، ولكن حين التمعن فيها، نجد أن لكل بيت نحته الخاص به، الذي يعود لأسلاف القرية أو القبيلة، ولا يعني هذا أن جميع بيوت الأسلاف نجد النحتَ فيها والتصاميم بل إنَّ بعضها تخلو من النحت.

أول "بيت أسلاف" تم بناؤه في بداية أربعينيات القَرن التاسع عشر، في الساحل الشرقي للجزيرة الشمالية، الذي وصلته المسيحية ومعاهدة "واتانغي" في الوقت نفسه، لأن البريطانيين طافوا حول البلاد على زعماء القبائل الـماورية من أجل التوقيع على المعاهدة التي جعلت نيوزلندا جُزْءًا من التاج البريطاني. 

يُعد بيت الأسلاف جدث السلف كما ذكرتُ أعلاه، فالمقدمة العليا تعني الرأس، والعمود الأعلى الذي يربط مقدمة بيت الأسلاف بنهايته هو مركز العمود الفَقَري، والأخشاب الجانبية التي تبدأ منه وترخي ثقلها على العمودين الجانبيين أسفله هي أضلاع العمود الفقري، أما الباب فهي تمثل فم السلف، وهذا ما يجعل الأسلاف يقيمون معهم، ويتدخلون في الحاضر والـمستقبل، أي أن الماضي هو الذي يقود الـمستقبل.

ويُعدّ "بيت الأسلاف" بيت الجميع، وحين يتحدث الشخص في الـمَراي، يؤكد أن "بيت الأسلاف" سبقهم جميعًا، حتى لو أنهم أنتهوا من بنائه قبل لحظات، وذلك لأنه يعود لأسلافهم كما أوضحت أعلاه. أمّا "البوفِري" وهو طقس ماوري بامتياز، فيقام لافتتاح الـمراي، أو الترحيب بضيوف الـمراي، أو افتتاح بناية أو ما إلى ذلك من الفعاليات الاجتماعية، ويقام عند الفجر، وفيه يتحتم على النساء لبس ملابس محتشمة وتنانير أو فساتين طويلة، والرجال أيضًا، إذ يمنع منعًا باتًّا من ارتداء الملابس القصيرة، والـمكان الذي يُقام في "البوفِري" يصبح مقدسًا خلال مدة الاحتفال أو الطقس، ولكن بعد ذلك تُنتزع قدسيته مع انتهاء البوفِري.

وبيت الأسلاف وهو الجزء الأهم والحيوي في الـمَراي، يمثل علم الكونيات الـماوري، فالجزء الخلفي يمثل الماضي، والجزء الأمامي يمثل الحاضر والـمستقبل، ويستقبل الشرق، حيث "هاوايِكي" الجزر الأسطورية التي نزح منها الـماوريون ما بين القَرنين العاشر والرابع عشر، ويُظن أنها تقع في الجزر البولينيزية، كذلك يمثل شروق الشمس بوصفه يومًا جديدًا.

وفي عشرينيات القَرن العشرين، انحسر عدد النحاتين، وبمطالبة من عضو مجلس النواب "أبيرانا ناتا" وهو مـاوري، تم افتتاح مدرسة في روتُـروّا في عام 1927 ميلادية، لتعليم النحت الـماوري، ثم أضيف له قسم تعليم "ألواح تُكو تُكو" ولأن المرأة مُحرّم عليها الدخول إلى "بيت الأسلاف" في أثناء عملية البناء، تم إنجاز ألواح "التُكو تُكو" في الـمدرسة ويتم حمل الألواح جاهزة ووضعها في بيت الأسلاف، وهذه الألواح هي من القصب، وتسف النساء ألواح "التُكو تُكو" مثلما تسف نساؤنا العراقيات والعربيات الـحُـصُرَ والزنابيل والـمهفّات (الـمراوح اليدوية) من سعف النخيل.

وفي ثمانينيات القَرن العشرين، أصبح بيت الإسلاف، في مؤسسات الدولة مثل المدارس والجامعات والمعاهد، لكن هذه البيوت لا ترتبط بقبيلة أو قرية، أي أَنَّ في كل مدرسة وجامعة ومعهد هناك "بيت أسلاف" مثلما لاحظتُ الأمر في السودان ففي كل مدرسة وجامعة ومعهد يوجد جامع للصلاة، هذا التقليد في السودان أتى به أنقلابيو حزيران 1989 ميلادية.

البيت الـماوري، وهو في الحقيقة كوخ، له في الغالب ثلاثة أشكال، فهو إما دائري أو مستطيل أو بيضوي، أما مواد البناء فهي الخشب حيث إطار الكوخ وهيكله، ويتم تغطيته بالقصب، أو سعف النخيل، أو لحاء الشجر، وفتحة الدخول والخروج واطئة، إذ إن القوم لم يعرفوا الأبواب، وتُغطى أرضية الكوخ بحُـصُـرِ القصب، ولم يكن البيت أو الكوخ الـماوري يحوي أثاثًا، ولكن السرير من الكتان، وهو عبارة عن حصيرة أرضية. وأحيانًا كان يتم حفر مساحة الكوخ لتكون أوطأ من الأرض المحيطة بها ويتم بناء البيت عليها.