فعل القراءة.. هل يضاهي آليات الكتابة؟

ثقافة 2023/12/04
...

 عمار عبد الخالق

عند حدوث أمر يتعلق بحادثة ثقافيّة سائلة أو حب سائل كما يصفها الفيلسوف زيغمونت باومان يحتاج المرء إلى تغذية نفسية تتولى التعامل مع الحالة بعناية كافية لتخلص من انعكاس التعارض والقبول مع العقدة، والانتباه للفضيلة بعيداً عن الإفراط بصراع الموضات العشوائية الخارجة من دائرة الوهم، والمتداخلة في صالات الإثبات والنفي.. وهنا تتشكل القراءة النوعيّة للحدث وكيفيّة الخلاص من بئر المسائل بالمهارة الذاتية لدى صانعها .
يذكرنا الروائيّ التشيلي بنجامين لاباتوت عبر مقولته أن “الأدب هو العلم القادر على صناعة حلول في أعنف الأفكار”، تُتمثل مرحلة القراءة وانعكاسها بمفاهيم السلوك الشخصي لأعلى صراعات الجنون المتوازن ما بين الحبكة والعقدة والعين القارئة للشخصيات وتحريكها بين سطوح الورق والقفز، وما بين الألوان والتخطيط بأحمر الشفاه بلحظة إعجاب بجملة أو فكرة، ليتم تطريزها على هامش الكتاب. أن هذا التعامل صنع رؤيا داخلية ما بين القرّاء مع ذواتهم لاكتشاف مخاطر جسيمة بعقلية شهريار. التوقف عند مقولة الكاتب الكولومبي كونرادو زولواجا الذي يرى فيها أن «فتح الكتب بمثابة ركوب القطار في إجازة زمنية»، قد يدفعنا للتساؤل عن حدود القارئ نفسيَّاً قبل القراءة وبعدها، وهل هو قادر على صنع ألوان مجازية أبّلغ من الكاتب تُمنحه فرصة العمل في لوحة غير مكتملة، وربما عارية بلا هوية، أو مناخ، أو بيئة صالحة لنظر القارئ.. هناك كتب كثيرة بحاجة إلى شراء فستان «ليلاس» وعطره عند فصول الكتَّاب ورسمة حجر «الإثمد» الخارقة عند العرب أمام مرايا الأخرين.. هنُا مزايا التعافي الأدبي من أبواب هي أكُثر أمانٍ وسكينة بين أيادٍ دافئة .  من هنا يعتبر البعض منزلة القارئ نادرة واستثنائية، لأنّها مسألة تعويذة، كأنها تطرز أيام الكاتب بعملية إيصال الذروة إلى تربة خصبه قابلة للتلاعب مع الماء بحيرة مطلقة، على عكس الروائي أو المفكر أو الشاعر القارئ، إذ يكون ربما نتاج مراجعيات معينة أو رؤى نقديّة، لكن الدمية الحسيَّة الشفافة للقراءة عند طبقة القرَّاء مرنَّة في إنزياحاتها ومجساتها عند التعبير لمنح إنتاج جوهري بقالب بعيد عن التعقيد أو الجدال في هوية المنظومة الفكرية الفردية.. حيث تتشكل تلك المحاور في إنجاز علاقة ما بين المُريد والشيخ بشكل متحرك دائماً ومن دون شروط السكون المخيّفة كما يراها التنزاني عبد الرزاق قرنح بأنها «وسيلة لفهم التجارب القاسية “.
إن الكثير من صناع الحراك الأدبي يعتقدون في أن جسد القارئ المثالي أو النخبوي أو الحاذق تلك التسميات المتعددة قادرة على بلورة المتغيرات النقدية وإعادة حيثيتها وفقا لمقاسات معطف الكتّاب والغوص بعيداً عن تراكمات النقّاد وعملية شراء النص الإبداعي مادياً وغرق التحليل بشاطئ الأخوانيات الثقافية.. من هنا نتساءل: هل تُشكل القراءة عملاً إبداعياً بمعطف القارئ؟ ومن زاوية أخرى هل لدى القرّاء قدرة على محاورة النقّاد؟

مؤشرات الدول الكبرى
يرى الشاعر والصحفي السوري هاني نديم أن القراءة عمل إبداعي مصمت، إنها طاقة كامنة، لا فيزيائية، اللهم إلا بانعكاسها على سلوكياتنا وخطابنا، لهذا يقول فرانسيس بيكون: «إما أن تكتب شيئًا يستحق القراءة، أو أن تفعل شيئًا يستحق الكتابة».
ويقول نديم إنني: أفضل القراءة على الكتابة في كثير من المرات، إنها الفعل الحضاري المتواري للعامة وهم السواد الأعظم من الناس، ولهذا تعتبر ساعات القراءة من مؤشرات الدول الكبرى على سلم التقدم الحضاري.
ويؤكد نديم: بالقراءة نحيا مرتين على حد تعبير تايلور سويفت، وهي حوار مع أعظم عقول البشريَّة عبر التاريخ كما يقول ديكارت. أعتقد بشكل شخصي أن هذه الطاقة الكامنة هي فاعلة إبداعياً للغاية.

مرجعياتها فكريّة واجتماعيّة
أما الكاتب والروائي العراقي جابر خليفة جابر فيقول: منذ أن بدأت التحولات التنظيرية الكبرى في النقد الأدبي وتحول معها التركيز على النص أولا ً بدلا عن المؤلف مع ظهور المدارس البنيويّة والتفكيكية وتنوعاتهما، ثم مع المدرسة الظاهراتية الجديدة ونظريات القراءة والسيمياء تحول التركيز على القارئ أو المتلقي عموما أكثر من النص ومن المؤلف معا .
ويضيف جابر عبر حديثه عن هذا التحول: غدا القارئ جزءاً أساسياً من العملية الإبداعية بل صار فيها المحور الأهم الذي استهدفته النظريات والدراسات النقدية حتى قيل أن القارئ هو المؤلف الحقيقي للنص وليس المؤلف المباشر، أو كحد أقل، صار القارئ مؤلفاً مشاركاً للمؤلف الحقيقي، سواء كان هذا المؤلف هو الكاتب أو الشاعر كما تسالم العرف الأدبي والثقافي السائد عليه أو تلك القوة الغامضة المبدعة (كما يرى صاحب هذه الكلمات) التي تصطفي سعاة بريد لها يوصلون رسائلها (النصوص) إلى القارئ المرتجى، وسعاة البريد أولئك هم من يسمون عرفاً بالمبدعين! وهم في الحقيقة ليسوا المبدعين الحقيقيين وإنما هم سعاة بريد مؤهلون ليس غير!.
ويتناول جابر جوهرية المعنى في السؤال، وهو يتابع: لقد غدت القراءة فعل أدبي إبداعي لا يقل أهمية عن الكتابة، بل هو من يحررها من سجونها ويفجر طاقاتها التأويليّة ويحيلها إلى مرجعياتها الفكرية والاجتماعية والمعرفية عموماً.ويتابع الروائي جابر خليفة جابر: لا شك أن النص الحقيقي يتكاثر بتكاثر قراءاته وليس بكثرة قرائه فقط. بمعنى أن القارئ الفرد الواحد لو قرأ نصاً مبدعا لمرتين في زمانيين أو مكانين مختلفين أو قرأهما بمزاجين متباينين لتولد من قراءتيه نصان وليس نصاً واحداً! “وهكذا كلما كثر القراء تكاثر النص الإبداعي وكلما تكاثرت القراءات للنص الواحد تكاثر أكثر فأكثر، وهذا هو الدليل أن أهم أركان العملية الإبداعية وأثراها هو ركن القراءة”، وفقا لتعبيره.

آفاق ومدارك الوعي
وتعتقد القاصة والكاتبة العمانية إشراق الهندي أن القراءة تمد الإنسان المتعة والمعارف، وتُكسب القارئ معلومات من شأنها أن تفتح آفاقه ومداركه ووعيه وقدرته على الفهم والاستنباط وأحيانا الاستخلاص، وحتى البحوث والدراسات العلمية تزيد من خبرة الباحث في الموضوع الذي يبحث أو يدرس فيه.
وتقول الهندي إن “القراءة تفتح آفاق العقل على جوانب جديدة قد تكون غير معروفة له مسبقاً - لهذا من وجهة نظري- فأن الإبداع سيكون حاضرا في كل عمل قرائي لمن هو قادر على اختيار جودة ما يقرأ”.

الحافز الأول للكتابة
أما الكاتب والأكاديمي د. أحمد حسين الظفيري فيرى أن القراءة بحد ذاتها فعل إبداعي، ويتمثل الإبداع فيه عبر انتقاء الكتب التي تسهم في زيادة الوعي الفردي، واستلهام التجارب وبناء مخزون لغوي – لاسيما لدى من يمارس فعل الكتابة- فالكاتب أي كاتب لا بد له من مخزون لغوي، وهذا المخزون يرفد الأفكار ويظهرها بصورة أجمل تليق بالقارئ .
ويقول الظفيري إن “اللغة العربية بسعة مفرداتها وروعة بنيتها بحاجة لكم كبير من الألفاظ، ليتكون من خلالها الكاتب، فاللغات الأخرى لا تحوي عدد مفردات مثل عدد مفردات اللغة العربية، مما يضع مسؤولية مضاعفة أمام الكاتب العربي، لأنها – أي العربية- لغة دقيقة الوصف، لطيفة المأخذ، تولي المفردة أهمية كبيرة في محل وضعها النحوي والمعنوي”.
ويضيف التدريسي بجامعة سامراء أن “القراءة فعل يغير من حياة الإنسان ومن طباعه، لأن امتلاكه لغة جيدة يعني أنه سيصبح أكثر مقبولية من قبل الآخرين، وأكثر قدرة على التعبير عن أفكاره، وأكثر إقناعا للآخرين”.
نبَّه الظفيري بقول أنسي الحاج: لابد أن أقرأ كي أكتب، أو أكون مثل محمد الماغوط.. وهذا مستحيل، بمعنى أن القراءة تمثل الحافز الأول والأكبر للكتابة، فالكاتب لابد له من مداومة القراءة وعدم الاكتفاء بالكتابة فقط، لأن الفكر سينضب، وأن اللغة ستنفد وسيكرر الكاتب نفسه بين السطور من دون أن يعي وينتبه.