الخياليَّة وبدئيَّة التفكير

ثقافة 2023/12/06
...







د. نادية هناوي 



يصنع العقل الإبداعي متخيلات في حين يجرّد العقل العلمي تلك الصناعة من متخيلاتها، وما بين الصناعة والتجريد يتموضع السرد وسيطاً معرفياً وتكون الخياليَّة طريقاً إلى الواقعية التي بدورها تمنح العقل المعرفي مبررات العودة إلى السرد للإفادة منه كوسيط معرفي أيضاً. وما هذه العودة سوى حاجة فعلية إلى المستحيل من أجل فهم الواقع وإدراك ظواهره المضطربة والمتشابكة، يقول نورثرب فراي: “لا شك أنَّ الخيال ضروري للعلم التطبيقي والنظري، إذ من دون قوة بنائية في العقل لخلق نماذج التوقعات التي تدور حولها الفرضيات..

لا يستطيع العالم أن يصنع شيئاً لكن كل جهد خيالي في الميادين العملية لابد أن يصطدم بالاختبار العملي وإلا نُحي جانباً”. ومثالنا الحي والشاخص على الخيالية ملحمة جلجامش التي تجلت أدبيتها من خلال خياليتها فصارت أمثولة كحكاية بطولية مصوغة في قالب شعري تسرد حلم الإنسان في الخلود جسداً. وتشكل (الخيالية) ركناً مهماً في التحبيك القائم على اللامحاكاة، وبها يتمكن السارد من صنع عوالمه المستحيلة واقعياً وعقلياً ولكنها مقبولة فنياً ومنطقياً. وليست الخيالية نفسها التخييل الذي أساسه المحاكاة وإنما هي تفند المحاكاة باللامحاكاة وتبني أساسها المنطقي من اللامنطقي. وليس هذا بالغريب أو المتضاد لأنَّ السرد في أصل نشأته هو اللامحاكاة التي بها صنع الحكاء القديم عوالمه السردية من اللاشيء. 

وما وضعه أفلاطون وأرسطو بشأن محاكاة الفن للطبيعة استنساخاً وتنقيحاً إنما كان في مرحلة حضارية متقدمة بالقياس إلى المراحل التي فيها مارس الحكاء (الخيالية). ومعروف أنَّ الحضارة السومرية سبقت الحضارة الإغريقية في إنتاجها أول ملحمة في تاريخ البشرية هي ملحمة جلجامش التي فيها تصوير لعوالم تسبق زمن الملحمة بعهود طويلة وصفتها الملحمة بالعصر الذهبي. وهذا التصوير هو خيالية اللامحاكاة التي بالحبك تتحول إلى محاكاة وبمرور الزمن وتنوع أشكال التأليف الأدبي تضاءلت خيالية اللامحاكاة وتزايدت تخييلية المحاكاة. وكلما تقدمنا في التاريخ الأدبي تترسخ محاكاة ما هو ممكن ومعقول وكلما توغلنا في بواكير هذا التاريخ غدت لا محاكاة ما هو مستحيل وغير معقول بارزة وواضحة. ومن هنا عد نورثروب فراي كتاب التوراة كتاباً أدبياً لأنه يحكي عن حضارات كانت فيها الخيالية أساس التفكير. 

وكثير من مظاهر عالمنا ما صارت حقيقة إلا لأنَّ أساسها خيالي، فالطائرة حلم إنساني كان في زمن السومريين خرافة حين وضعوا للثور السماوي أجنحة كبيرة ثم تجسد بشكل تجريبي عملي حين حلّق عباس بن فرناس بجناحين من ريش وشمع فأذابتهما الشمس وقضى نحبه. واستمر الإنسان في التخييل إلى أن تحول حلمه وتجريبه إلى واقع علمي عند اكتشاف المعادن الخفيفة والمحرك النفاث. وهكذا سائر الأشياء التي نراها اليوم حقيقية كانت في أساس فكرتها مبنية على الخيال. وما دامت اللامحاكاة طريقاً إلى المحاكاة، فلا تعني خيالية الخرافة والأسطورة الاستحالة، بل الخيالية قول تعبيري عن فعل فكري في الكون والآلهة والأرض والسماء. والحاجة إلى التفكير هي التي أوجدت الخيالية التي بها تمكن الإنسان من محاكاة ما لا يحاكى، وبه استطاع جعل الواقع مفهوماً غير غامض وأصبح عقله الإبداعي يلهمه قول الخرافات. 

ولقد قطعت الخيالية أشواطاً سردية وتعددت الأجناس فمن الحكاية الخرافية والفابولا إلى الملحمة والتراجيديا والكوميديا ومن الرومانس والنوفيلا إلى النوفل. وقليل هم نقاد الأدب الذين يبحثون في ملحمة جلجامش عن خفاياها بينما كثير عدد الآثاريين الباحثين في الحضارات القديمة الذين يجدون كل يوم جديداً في هذه الملحمة. وهذه مفارقة ليست غريبة إذا علمنا أنَّ عدد النقاد الذين يبحثون عن الخيالية في الميثولوجيا أو الذين جذبتهم الأسطورة هو قليل في الأعم الأغلب. 

ونادراً ما نجد في هذا القليل من يولي الملحمة اهتماماً وفي منتصف القرن العشرين ذكر نورثروب فراي ملحمة جلجامش بشكل مقتضب ومن دون أن يسميها، وأكد أنَّ للآداب الغربية أساطيرها، قائلاً: “منذ مدة عثر أحد المنقبين في الشرق الأدنى على مخطوطة عمرها خمسة آلاف سنة جاء فيها أنَّ الأطفال لم يعودوا يطيعون آباءهم فنهاية العالم باتت وشيكة ومن الواضح أنَّ مثل هذه الأسطورة الاجتماعية تتأرجح من أقصى حد إلى أقصى حد من دون أي شعور بالتفكك فنحن أيضاً لنا أساطيرنا عن التقدم وهي أساطير من النوع الذي يفسر انتشار المحطات الغاصة والأبنية الفخمة في الضواحي والطرقات ذات الخطوط الأربعة التي انتشرت في الريف”، بالطبع خيالية اليوم ليست كخيالية الأمس، فما كان بالأمس مخيفاً ومقدساً صار اليوم تخريفاً يثير السخرية ولكن العقل الإبداعي قادر على أن يكيف خياليته بالطريقة التي تجتمع فيها البيئات والثقافات أصلاً وملحقاً لا كتناص فيه يكون للنص الحاضر وسيط إبداعي غائب، بل كإلهام يصنعه عقل لا حدود لخياله مما يعبر عنه ببرج بابل الذي صنعه الخيال البشري من الكلمات وحين انهار تبلبلت الألسن اقتراباً من السماء وعودة إلى الأرض فكانت اللغة الأدبية لغة طبيعة بشرية لا فرق فيها بين شكسبير وبوشكين أو غاندي ولنكولن.

إذن الخيالية هي بداية التكوين وهي نهايته، وهي اللعبة التي اتخذت من اللغة مظهراً، فكان الأدب وكانت أشكاله تتجلى فيها مراحله الخاصة. وكل مرحلة هي عاكسة للمراحل الأخرى فكما أنَّ الحكاية صنعت الأسطورة، فإنَّ الأسطورة صنعت الملحمة. وهكذا واصل الأدب التشكل شيئاً فشيئاً عبر تقاليد يسميها شتراوس ترقيعاً (بريكولاج) أي الجمع بين كسر وقطع متناثرة من كل ما تقع عليه يداه من حطام ونثار في قراءاته. ويظل الشكل الأسطوري مرتع الخيالية الأولى التي منها كان الشكل السردي مزيجاً من التاريخي والواقعي وفيه اللامعقول محتمل وممكن بمقاييس الأدب الخيالية. ومع تعقد الواقع المعيش تغدو الحاجة إلى الخيالية أكثر قوة وحدة وتطرفاً وجموحاً من مجرد تخيل ما هو محتمل في العالم الموضوعي. وأهمية الخيالية أنها تعيد التوازن وتفك الاشتباك من خلال اللغة سرداً وشعراً، ولكن السرد يحقق الخيالية بدرجة أوضح وأكثر قصدية في تحقيق الرغبة في الفهم وإزالة التضاد عن الوجود نظراً لترابط تحبيك الأقوال والأفعال وتناغم صوره التمثيلية تناغماً غير محصور ولا محدد في عالم كائن وإنسان مكين. 

والذريعة في اللاحصر واللاتحديد هي الخيالية التي بها يصنع السرد من المستحيل ذهنياً ما هو محتمل لغوياً، كأن يلد الحيوان بشراً أو يخرج الإنسان من نار لاهبة بلا أدنى حروق. وهذه صور ومسائل أنتجها العقل الإبداعي فمهد بذلك السبيل للعقل العلمي كي يفهمها، بمعنى أنَّ العقل الإبداعي يوصل إلى العقل العلمي الذي هو مكمل له وملحق به. ولقد شكلت الخيالية الجذور التاريخية للحياة الدينية بمرحلتيها الألوهية المتعددة والكهنوتية الوثنية ثم كانت الخيالية سبيلاً من السبل المؤدية إلى بلوغ الفهم العقلاني للديانات السماوية.

وما بين الخيالية والعلمية يتشكل السرد فيغدو تارة واقعياً بالمحاكاة وتارة أخرى غير واقعي باللامحاكاة. وإذا كان التخييل السردي يستحضر بالمحاكاة كل تاريخ السرد، فإنَّ الخيالية السردية لا تستحضر بل تشتق من نفسها ما هو ليس منها ليكون متشكلاً خارجها، وهذا الاشتقاق يعني الاستحالة التي بالتشكل الخارجي تتحول من اللاإمكان إلى الإمكان. فالخيالية لا حدود لها، تجمع الإنساني بالطبيعي والحي بالجامد والسماوي بالأرضي وبتخليق خارق وجامح لكن ليس فيه غرابة أو عجب لأنه محسوب على وفق تناغمات غير مدركة.

وتشي الخيالية وهي بهذا القدم والاتساع أنَّ في السرد دوماً ما هو جديد لم يجربه الإنسان ولا حاكاه. وبهذا الشكل تستمر الخيالية لصيقة بالإنسان أيا كانت درجة علمه ومهما تقدمت حضارته. وما اتجاه كتّاب الرواية والقصة اليوم إلى الاستعانة بالفواعل غير السردية وما اهتمام السينما بأفلام الرعب والأساطير سوى حنين إلى الخيالية وكتأكيد لحاجتنا العلمية إليها فضلاً عن الرغبة التي تدفع باتجاه تجريب اللامحاكاة التي بها تتسع الواقعية فتتجاوزها إلى اللاواقعية. 

وتتعدى الخيالية نطاق الرمز والتغريب والعجيب واللامعقول لأنها حلم أساسه أمران متضادان هما الرغبة والرهبة. والعقل البشري الذي صنع الأساطير قادر على صنع غيرها حتى وإن عاش في ظل حضارة متقدمة ومعلوم أنَّ كل الحضارات كانت متقدمة في زمانها، تقول الدكتورة نبيلة إبراهيم: إنَّ “الإنسان مهما وصلت درجة حداثته لا تنقطع صلته بالأساطير القديمة، بل العكس هو الحاصل، وهو أن تزداد صلة الإنسان بالفكر الأسطوري ونتاجه بوجه عام مع تزايد درجات حداثته.. والإنسان القديم الصانع الأول للرموز والصانع الأول للشكل المتخيل”. ومتى ما فًقَدَ العقل البشري قدرته على صنع الجديد كان ذلك إيذاناً بانتهاء ربط الماضي بالحاضر وأفول الحضارة، وهو أمر غير ممكن بما للعقل البشري من إمكانيات في صنع اللاممكن.

وما يجعل الخيالية محتملة في لا واقعيتها وممكنة في استحالتها هو أنها في الأدب شعراً وسرداً عبارة عن قوة إلهام تؤدي الاستجابة لها إلى المعرفة. وهكذا كانت الميثولوجيا أساس كل معرفة، ومنها صنعت الشعوب الأولى أساطيرها التي منها تشكل وعيها وهوياتها ومن ثم كونت حضاراتها. وإذا كان الأدب شكلاً من أشكال المعرفة، فإنَّ أعمق صور هذه المعرفة تقوم على الخيالية كمرجع لكل ما هو إنساني وحضاري، فيه يختصر تاريخ البشرية.