الخطاب الجمالي والتأويلي في الخط العربي

ثقافة 2023/12/06
...

مرتضى الجصاني



 رغم أنَّ العنوان مألوفٌ للقارئ لكنَّ ما تمَّت كتابته للآن يدور في فلك الشكل الخارجي دون الولوج في سبر أغوار الباطن في مكنونات الخط العربي كونه سراً من الأسرار وبحراً عميقاً لا يفقه أسراره وجمالياته إلا القليل ممن تماهى في عشقه وروحه مع كل صوت أو حرف يُنطق فيغيب في بياض الكون، وطالما الخط هو الشكل الصوري للغة فقد أخذ الخط دوره في التقاط صورة الصوت أو تقديم الصوت على شكل صورة للمتلقي وللمشتغلين باللغة عموماً، ومن هنا جاءت أهمية الخط العربي كونه صورة اللغة وهذا المفهوم تطور وتبلور في عهود متواصلة بمعنى لم يكن صنيعة يوم واحد أو عام واحد بل هو جهود متراكمة امتدت لقرون ولا نستطيع تحديد نشأة الخط العربي بمعنى لا نستطيع تمييز الزمن الملتبس بين وظيفية الخط وجماليته وتحول الحرف من الكتابة إلى الخط وذلك لتداخل المراحل التطويرية للخط لكنه بكل الأحوال يدخل مرحلة مختلفة بنزول القرآن الكريم ويكتسب قداسة لا تزال تحيط به مثل هالة تزينه وتزيده هيبة، غير أنَّ ذلك لا يعني قداسة الخط في ذاته لكنه أصبح وسيلة المقدس في التعبير ومن هنا يكتسب قداسة أيضاً، ثم يتجرد الخط بعد كمال نضج التجربة القرآنية ويتحول الخط إلى جمال بحت ويدخل في مرحلة الاتصال بالمطلق وبقدس الأقداس وكأنه يريد قول كل شيء دون أن يقول شيئاً يحيطه الغموض وتحيطه القداسة والبوح الخفي والجميع يدور في فلك الحروف بدوائر وتكرارات متصلة كأنها صوت يتجلى بشكل ماثل للعين ذلك لأنَّ الخط العربي تبنى منطقاً جمالياً مختلفاً منذ البداية ومنطقه الجمالي مستمد ومستند إلى فلسفة إسلامية كونه أي الخط ابن تلك الفلسفة وهذه الفلسفة تتبنى قيماً جمالية غايتها التكامل والمثالية بمعنى تتبنى قيم الفضيلة والوفاء والصدق والإخلاص والعطاء وهذه القيم تحولت إلى أشكال فنية أو سلوك فني تبناه الخط العربي في منطقه الجمالي فنلاحظ أنَّ اللوحة الخطية يستغرق فيها الفنان المسلم وقتاً طويلاً في سبيل الوصول إلى أعلى درجات الكمال الفني والكمال الفني يكمن في إتقان التفاصيل وتقلبات القلم في كل زاوية ومن ثم إكساء الحروف بالحبر وكأن الخطاط في عمله هذا يستوحي الآية القرآنية التي تقول (ثم كسونا العظام لحماً)، فهو يضيف للحرف حتى يبدو غنياً ممتلئاً، إذن هنا يتبنى الخط العربي منطقاً جمالياً مختلفاً عن المنطق الجمالي الغربي في عمل اللوحة لكنه يتحرك داخل هذا المنطق يتحرك وفق جمالياته المتاحة ويستبدل الإبداع والابتكار بالإتقان فيتحول الإتقان من جديد إلى فن أيضاً وهذا يمنح الخط بعداً آخر يسمو على الجمال ويتعداه إلى الجلال كما يذكر إيمانويل گانط في تصنيفه مراتب الجمال، هذا يعني أنَّ الخط العربي يحيط نفسه بهالة روحانية وطاقة تمنحه الهيبة والجلال إضافة للجمال الكامن في تفاصيله، والإتقان يحقق له هذه الصفة. أيضاً ضمن المنطق الجمالي للخط العربي هناك حالة غياب صوت الفرد المعبر عن نفسه وعن همومه في اللوحــــــــــــة فنلاحظ كل أعمال الخط العربي يغيب فيها تعبير الفنان عن نفسه وينصرف إلى الاستمتاع في الإتقان وحالة التماهي مع الغيب والمطلق ويذيل خطوطه بتوقيع هو أيضاً له حالة منسجمة مع النص المكتوب، كما يغيب موضوع اللوحة فغالباً اللوحة الخطية تجاوزت ثيمة الموضوع إلى حالة التجريد المضمر داخل اللوحة من خلال التركيب الخطي وتشابك الحروف في علاقات معقدة تفضي إلى فضاء أرحب ورؤية ترميزية يتلاقى فيها النص المكتوب والتركيب الخطي ليكون كل منهما جهة تعبيرية من خلال الغموض الذي يراد له أن يكون إيذاناً في الدخول في التجلي الكبير في الوصول إلى النص المراد من خلال فك شفرات وتداخل الحروف والجمل المكتوبة وهذا بــــدوره يغيب موضوع التعبير وليس موضوع النص فالنص ثابت واضح مباشر لكنَّ التعبير عنه يتغير بتغير الخطاط الفنان وبذلك يكون الخطاط ملزماً في التعبير عن النص وليس التعبير عن ذاته مع اختياره لكنه لا يعبر عن ذاته الحقيقية فهو يعبر عن النص بذائقته ولذلك فغياب الموضوع في العمل الفني كان ولا يزال من ثيمات الخط العربي وبهذا يحقق الخط العربي سبقاً تجريدياً عن الفنون الأخرى مع اختلاف المفهوم، لكنه بالنتيجة تجريد من لون خاص مجرد وفق نظرة فلسفية إسلامية تلاقحت فيها البيئة والدين والقيم لتنتج فناً مثل الخط العربي، وبزوال فكرة رسم ذوات الأرواح التي نهى عنها الدين الإسلامي أو لم يحبذ فكرتها كونها شيئاً من الخلق والخلق خاص بالله سبحانه ابتعد الخط العربي عن كل ما هو مادي فهو لا يحاكي الطبيعة المادية في الحياة ولذلك هو لا يتغير مع متغيرات الحياة كي يعبر عنها بالنتيجة الخط العربي لا يعبر عن الصراعات الداخلية للفنان بين نفسه من جهة والحياة ومتغيراتها من جهة ثانية إنما يعبر عن معنى دائم أزلي سرمدي مترفع عن المتغيرات المادية لكنه ليس جامداً فهو يتحرك داخل هذا المعنى، وبالعودة إلى بيئة الخط العربي التي ينطلق منها خطابه الجمالي هذه البيئة الإسلامية أورثته قيماً أخلاقية أيضاً لا تبتعد كثيراً عن مقومات الدين الإسلامي فهي متممة له كما في الحديث النبوي “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” فالخط العربي يلزم نفسه بهذه القيم من قبيل الفضيلة والإخلاص والتسامح والزهد ونكران الذات فهي تسمو بعمله تقرباً إلى النور المطلق ويطبقها على فن الخط العربي فنلاحظ الخطاط أو الفنان المسلم ينجذب لكتابة النصوص القرآنية والأحاديث والحكم والأقوال المأثورة وتزيينها وتزويقها وإتقان عملها بشكل يصل إلى حد الدهشة، أقصد أنَّ هذا لم يأت من فراغ أو من عبث بل تكون وتبلور في ظل فلسفة وبيئة إسلامية قائمة على قيم إخلاقية انعكست هذه القيم على شكل الخط العربي نفسه فخط الثلث الجلي تبدو عليه الهيبة والجلال والنظام الدقيق في هندسته وتركيباته وأشكال حروفه وحجمها مما جعله الخط المفضل والأكثر جمالاً وجلالاً لتزيين المراقد المقدسة والأضرحة والعناوين الرسمية التي يغلب عليها الجدية والأداء.