رمزيَّة الأرقام في النَّص الشعريّ

ثقافة 2023/12/07
...

 د. كريم شغيدل

في العام 1994، نشر الشاعر خالد مطلك قصيدة بعنوان (المسافرون) في إحدى الصحف المحلية العراقية، أثارت في حينها انتباه الوسط الثقافي وعدت نصاً تجريبياً خارج المألوف: هكذا يبدو الشكل البصري للنص كما في صورة المخطط، المسافرون مجرد أرقام مجهولة، ما عدا الشاعر الذي ورد اسمه بقصدية واضحة في الرقم (13) الدال على التشاؤم في الموروث المسيحي، وهي اختزال بصري لرحلة الحياة اليومية المشوبة باليأس والإحباط والتشاؤم والغربة.

 قد تحيل نصوص كهذه إلى ما يسمى بالشعر الكونكريتي، أو القصيدة البصرية التي تقرأ بصرياً ولا يغني المتلقي إلقاؤها صوتياً، فليس ثمة اشتغال صوتي، لغوي أو نغمي، وهذا أنموذج لتحول الشعر من كونه فناً زمانياً بما يشغله المنطوق اللغوي من زمن، إلى فن مكاني يشغل حيزاً مكانياً منظوراً على الورقة، ويعبر النص بحكم السياق الثقافي الذي ولد فيه، عن دلالة الاستلاب الذي كان سائداً في ظل ظروف الحرب والحصار الاقتصادي، بل إنَّ هذا الاختزال هو علامة تدل على شحة الحياة، فمثلما استغنت الحياة عن مباهج كثيرة ومظاهر للعيش متعددة، استغنى النص الشعري أيضاً عن لغته المجازية وجمالياته التعبيرية، وذهب إلى اللغة الحقيقية أو بما تؤديه من وظيفتها التداولية في الإيضاح(عنوان النص، واسم الشاعر/ الراكب 13، والجملة الأخيرة، والإشارة للسائق)، فلغة النص إشارية مجردة، ولم يكن النص مجرد لعب شكلي، إنما هو دلالة واضحة ومباشرة عن غربة الإنسان/ الشاعر، في رحلة مع مجهولين أو أغراب، فالراكب/ المواطن مجرد رقم في آلة الحياة(الباص)، استلبت منه إنسانيته وفردانيته وحياته عبارة عن باص مسيَّر من سائق يتجه به نحو المجهول، النص لم يقل شيئاً من خلال منظومته اللغوية ومحمولاتها الدلالية، إنما رسم مشهداً مألوفاً(مجموعة ركاب في باص يقوده سائق) فلا انزياحات تركيبية ولا دلالية ولا صوتية. 

أرقام وأقواس تملؤها نقاط لأسماء مجهولة، ربما يكون وضع الشاعر لاسمه في الرقم(13) هو العلامة الوحيدة بحكم محمولها المثيولوجي(التشاؤم)، إذاً أين تكمن شعريّة النص؟! أو ما الذي أكسب هذا النص شعريته؟ وما الذي جعله صادماً ومنحه مساحة قرائية على مستوى التلقي؟  

فقد أثار في حينه اهتمام الوسط الثقافي، ولو قرأناه من وجهة جمالية، نجد أنه بانزياحته البصرية الكلية الصادمة حقق شعريته، كما حقق الدهشة القرائية من خلال شكله المشاكس للسائد والمألوف، وهو لا يخلو من التهكم والسخرية، فقد جاء توزيع مقاعد الركاب على غرار شكل القصيدة العمودية، ولكن بلا وزن ولا قافية ولا صورة ولا تركيبات لغوية أو كلمات، وثقافياً هو يضمر تهكماً على قصائد المديح العمودية التي امتلأت بها صحف تلك الحقبة، مثلما يضمر تهكماً على تقليدية الثقافة الموروثة وارتباطها الآيدلوجي بالسلطة، بالتزامن مع تراجع الحياة المدنية لصالح أنساق البداوة وهوية السلطة التي تعكزت على المنظومة القبلية حفاظاً على وجودها الذي زعزعته أحداث غزو الكويت وما تلاها، وكان بمثابة التمرد على ثوابت الخطاب الشعري التقليدي والحداثي على حد سواء، وربما جسد التعبير الإشاري للنص بنية الخوف بغية الإحالة إلى المسكوت عنه، وتحايلاً ثقافياً على سلطة الرقيب الثقافي. 

ولم تقف الاشتغالات البصرية للشاعر العراقي عند هذا الحد، إذ عملت دنيا ميخائيل على العديد من التوظيفات البصرية، لتجسيد فكرة المسكوت عنه، والتلميح بدل التصريح، سواء بتوظيف رمزية الأرقام أو غيرها من الأشكال، ففي مجموعتها (الليالي العراقية) توظف دنيا ميخائيل الأرقام بدلالات مختلفة كالآتي:

1 - «الرابحُ يرتدي قلادة/ يتدلى منها نصف قلب معدني،/ ومهمته بعد ذلك/ أن ينسى النصف الآخر»، (دلالة تعبيرية دالة على فقدان النصف الآخر الخاسر).

2 - “مرت خمسة قرون/ منذ أن حكت شهرزاد/ حكايتها”، (دلالة زمانية بمحمول ثقافي).

3 - “سيقطع آلاف الأميال/ من أجل كوب الشاي”، (دلالة مكانية).

4 - “سنذهب بسرعة الضوء/ إلى قارات العالم السبع”، (دلالة مكانية).

5 - “في العراق/ بعد ألف ليلة وليلة/ شخص سيتحدثُ إلى شخصٍ آخر”، (دلالة زمانية بمحمول ثقافي).

وهذه الإشارات الرقمية في نص واحد يمتزج فيه السرد الشعري مع التعبيرية الشعرية بتوظيف أسطورة تموز وعشتار وشهرزاد، فضلاً عن توظيف البصري بالاستفادة من ميثولوجيا التنبؤ أو قراءة الكف، وقد تخللت النص صورة لكف مكتوب عليها خطوط الطالع، كما تحاول الشاعرة تحويل بعض مقاطع نصوصها إلى 

تخطيطات.

وفي نص آخر من المجموعة ذاتها بعنوان (مخطط انسيابي)، توظف الشاعرة التجريب البصري إلى جانب الأرقام، إذ وظفت خطوطاً بذاكرة طفولية، لرسم شكل طفولي بدائي للإنسان (أسهم ودوائر وحروف) وختمت النص بمسألتين حسابيتين بدائيتين أيضاً لهما دلالة تعبيرية (1-1=1) وهذه دلالة مجازية كأن النص أراد أن يعبر عن البقاء مع حالة الفقد، فالإنسان حين يفقد حبيباً يبقى واحداً منقوصاً منه واحداً، والمسألة الثانية (1+1=1) بمعنى التوحد مع الآخر والانصهار به، ربما تضمر نصوص الشاعرة تمرداً على لغة الشعر، وسياقاته الشكلية والتعبيرية، ففي النص الواحد تتحد ثلاث لغات- إن صح التعبير- اللغة المجازية للشعر واللغة التجريدية للأرقام واللغة البصرية، وهي محاولة للانفتاح على سيمياء متنوعة للنص، فالدال هو الرقم (1) والمدلول هو الإنسان بحسب تأويلنا للنص، والدال الآخر هو الخطوط والأسهم والدوائر(هيئة الإنسان) والمدلول هو الإنسان نفسه، الدائرة الأولى (الرأس)، وقد كتب داخلها (البداية) وتستطيل كلمة (وقوع) حرفاً.. حرفاً لتشكل الرقبة، بينما ينشطر الجسد المفترض إلى نصفين، كلاهما وقوع، الشطر الأول وقوع في الحرب، والشطر الثاني وقوع في الحب، والنتيجة في شطر الحرب هي الفقد(1-1=1) أما النتيجة في شطر الحب فهي التوحد مع

الآخر(1+1=1).