الكذب والهُويَّة

ثقافة 2023/12/07
...

 محمدحسين الرفاعي

(1)

كيف يمكن أن نخصص التساؤل عن الكذب انطلاقا من الهويَّة؟ وفي أيَّة معانٍ تأخذ الآيديولوجيا على عاتقها تبرير وتسويغ ذلك؟ في الحقيقة، من جهة أن الكذب فعل أيديولوجي، فإنه لا يمكن التوقف عند حدود فهم كارل ماركس، والماركسية المحدثة، للأيديولوجيا بوصفها معرفةً برجوازيَّة براغماتيَّة مغلقة. إن الأيديولوجيا متى أخذت من جذرها تفهم بوصفها»سستام فهم». أي منظومة فهم بعامةٍ؛ وحدود تساؤل وتفكير وفهم، بخاصة. حينما نعي الأيديولوجيا على هذا النحو، في تعالقها بالكذب من جهة كونه فعلا أيديولوجيا، ننطلق من إشكاليات الفهم الممكنة الآتية: 

(2)

الإشكاليَّة الممكنة الأولى: يتضمَّنُ الكذب المعاني والتصورات والأفهام التي تحددها في كلِّ مرة الأيديولوجيا على أنها معايير الصوابية، والصدق. وعلى ذلك، يعتبر الكذب فعلاً غائيَّاً واعيًا بذاته.

الإشكاليَّة الممكنة الثَّانية: ليست الأكاذيب سوى التعبيرات المقصودة لعلاقات مصلحة تقوم على محدِّدات ومعايير تمَّ إنتاجها، في ديالكتيك الفكرة- والممارسة، قبليَّاً. وهكذا، فإنَّ شبكة العلاقات الكُلِّيَّة (المجتمعيَّة- الثقافية- الاِقتصادية- والسياسة) بين الفكرة- والممارسة، والتمثُّلات المختلفة لها في الفعل، هي التي تمكِّنُ من ممارسة الكذب. 


(3)

الإشكاليَّة الممكنة الثَّالثة: أفق فهم هذه الإشكاليَّة هو الرابط السَّبَبي بين فكرة الكذب قبليَّاً، وممارسة الكذب بَعْدِيَّاً. إنَّ وحدة العلاقة ههنا تُحدَّد عَبرَ تسويغات الآيديولوجيا لها. أي تسويغات الفهم القَبْليِّ Priori الذي يفتح شروط إمكان الممارسة. وعليه، ليس الكذبُ فعلاً فرديَّاً؛ بل إنَّه فعلٌ قائمٌ على شروط مجتمعيَّة تاريخية بنيوية تمكِّنُ فاعله من ذلك. 

الإشكاليَّة الممكنة الرَّابعة: إنَّ [النموذج- المثال Ideal-Type] للكذب، خلافًا لما يُتصوَّر ليس يمثُلُ أمام الوعي إلاَّ عَبرَ الصدق. وذلك، لأنَّ معايير القياس، قياس الحقيقة، في الصدق والكذب، وممارستهما، تبقى هي.. هي. بناءً على ذلك، يَنتِجُ الكذب من وعي المعيار نفسه الذي يقيس الصدق؛ أي إنَّ المعايير عند الأنا والآخر هي نفسها. ولذا، يمكن أن نقول أن هذا قولٌ صادق، وذاك قول كاذب. 


(4)

لكن كيف تأتي هذه الإشكاليات إلى مستوى الواقع المحسوس؟ وكيف نفهم ممارستها؟ إنَّها تأتي بواسطة بِنيَة الثقافة. يُفهم الكذب بوصفه فعلاً ثقافيَّاً. وإذا أردنا أن نتساءل عن ذلك، ننطلق من اِفتراضات وتصوُّرات سابقة هي الآتية: 

الفرضيَّة الفاهمة الأولى: كلما كانت البِنيَة التي تشرِّعُ للكذب أقرب إلى ميتافيزيقا سائدة في المجتمع، وتكون تتميز بضرب من ضروب التبجيل، كلما كانت الأكاذيب أكثر بعدًا عن أيِّ نقد، واِعتراض في التعامل معها. إنَّها أكاذيب تسوِّغ ذاتها باِرتباطها بميتافيزيقا جاهزة مقبولة من قِبَلِ الجميع. 

الفرضيَّة المفسرة الثَّانية: تقوم المؤسسة المجتمعيَّة على الأيديولوجيا المجتمعيَّة، في كل مضامينها البنيوية. وهذه الأخيرة بدورها تبني البنى المجتمعيَّة التي تمكِّنُ من الفِكر والفعل. إنَّ الكذب بوصفه فكرًا إنَّما هو يشتمل على معنى الحقيقة في ذاته. أفترض فعلاً مجتمعيَّاً قائمًا على تَصوُّر بعينه للحقيقة، ثَمَّ أفترض أن الفعل القائم ينطلق من بِنيَة الثقافة، أو بِنيَة الاِقتصاد، أو بِنيَة السياسة. لذا، كلما اِشتملتِ البِنى المجتمعيَّة على إمكانات تضمُّن، واِحتواء الكذب، صار الكذبُ أكثرَ قربًا للتصديق المجتمعيّ. 


(5)

الفرضيَّة الدالة الثَّالثة: البرهنة على الكذب ترتبط بمكوِّنات الأيديولوجيا. فحينما ننظر إلى أيديولوجيات تتضمَّنُ معاني الخرافة والأسطورة والأوهام والماورائيات، نعثر على ذاك الشرط الأصليّ لممارسة البرهنة على الكذب. إنَّه جملة العقائد المُسوَّغة على الرَّغْمِ مِنْ أنَّها لم يتمّْ الوعيُ بها ضمن ثُنائيَّة [النقد- والنقد المضاد] بعدُ. إنَّ الكذب هكذا، هو يمارس ذاته، بكل ضروب التفلُّت من النقد، مما فوق النقد. أي خارج التعالق بين الذَّات والآخر. 

الفرضيَّة الواعية الرَّابعة: إنَّ القبول المجتمعيّ بالكذب يجعل منه متمسِّكًا بأحد الاِتِّجاهين الآتين: إمَّا يفبرك ويزيف واقعيَّات بعينها؛ وإمَّا هو يخلق واقعًا ليس يوجد حتَّى. 

لذا، كلما كان الكذب أكثر قربًا إلى الواقع كان أكثر قدرة على خلق واقع لا وجود له. وذاك قائم على أن معايير فهم الواقع، هي ذاتها التي تُحدِّد، على هذا النحو أو ذاك، خلق واقع جديد لا وجود له. بعبارة واحدة، إنَّ وعي الواقع شرطٌ أساسيٌّ لخلق واقع جديد. 


(6)

يحدث كل هذا أمام العالَم بأسره؛ ويصمت، ولا يعترض. إنَّ ذلك يُفهم ضمن تخصيص بنيويِّ له على النحو نفسه الذي نفهم بتوسُّطه الحقيقةَ. 

إنَّ ما يمارس من كذب، وبناء أكاذيب في ما يتعلَّق بالإبادة المجتمعيَّة الشاملة في غزة، لا يأتي من ضروب تزييف وفبركة بسيطة؛ ولا هو يُعتبر بمثابة كذب بسيط يمكن فهمه على نحوِ المصلحة فحسبُ. 

إنَّه مؤسسة الكذب التي تجعل من الأقوال والأفعال تمارس، في علاقتهما بالعالَم والمجتمع العالَمي، في صيغةٍ تمثّل جملةَ التجاوزات والاعتداءات وسحق القيم والأخلاق والقوانين والتشريعات التي من شأن العالَم والمجتمع العالَمي. 

إنَّ المؤسسات العالَميَّة، وجملة المفاهيم التي قامت منذ عصر الحداثة، مرورًا بالحربين العالَميَّتَين، وصولاً إلى عصر ما بعد الحداثة، إنَّ جملة المفاهيم هذه، التي تشتمل على معاني العقلانية والتعدُّد والاِختلاف وقبول الآخر وحقوق الإنسان والحفاظ على المجتمعات والثقافات في تباينها وتنوعها، إنَّما هي تواجه تهديدًا وجوديَّاً صريحًا من قِبَلِ مؤسسة الكذب الهَوَيَّةِ هذه.