الأكثريّةُ والأقليّةُ... محنةُ اللغة

ثقافة 2023/12/11
...

  محمد صابر عبيد

المحنة المركزية التي تضطهد هوية الأقليّة وتمنح هوية الأكثرية فعل السيطرة والهيمنة والإكراه الدائم هي محنة اللغة، فلغة الأكثرية لغة لازمة ولغة الأقليّة لغة مطاردة، لغة الأكثرية لغة متحرّكة ولغة الأقليّة لغة ساكنة لا يسمح لها بالحركة إلا حول نفسها؛ في فعاليّة دائرية لا ترى فيها سوى دوالها وقد تكلست وانزوت، لغة الأكثرية لغة متعالية صانعة للمجد بما تقدمه من نماذج ثقافيّة وفنيّة وأدبيّة عالية، ولغة الأقليّة لغة خجول تعرض نماذجها على رصيف مهمل لا يلتفت إليه أحد إلا من ذهب إلى ذلك قصداً.
لا يمكن طبعاً وصف هوية الأكثريّة كلّها بالطغيان؛ إذ بوسعنا أن نقسّمَ القهرَ الذي تسلّطه على هويّة الأقليّة على قسمين:
الأول: القهر المقصود الذي تمارسه طبقات معيّنة ذات طبيعة أيديولوجيّة مستفيدة فائدة ماديّة ومعنويّة من هذه الهويّة، حيث استقرّ نمط حياتها على الاستمرار في إدامة هذا القهر وتغذيته وتموينه بكلّ ما هو ممكن من أساليب المحو والإلغاء والتهميش، من أجل أن تبقى المكاسب التي تحصدها لُقْيةً ثمينةً لا يمكن التفريط بها، أو التجاوز عليها، أو حتى مناقشتها على أيّ مستوى من المستويات.
 والثاني: القهر غير المقصود الذي تمارسه الطبقات الأقلّ أهميّة في دائرة الأكثريّة، إذ هي غير مستفيدة كثيراً من فداحة هذه الطبقيّة؛ لكنّ السياق يُرغمها على ممارسة قهرٍ غير مقصود يستهدف هويّة الأقليّة على الرغم من تعاطفها معها ورغبتها في الانتصار لها، فالقوّة المهيمنة التي تتسلّط على الوجود تسلّطاً علويّاً يقرّر مصير الأشياء على الأرض.  
 اللعبة التي تشترك فيها الهويّتان معاً هي (لعبة السلطة) -بكلّ ما تنطوي عليه هذه اللعبة من حيثيات وموضوعات وقيم وفضاءات وحساسيات-، ويقتسمانها على نحو عادل تماماً، فهويّة الأكثريّة هي الرأس وهويّة الأقليّة هي القدمين، هويّة الأكثريّة هي السماء وهويّة الأقليّة هي الأرض، هويّة الأكثريّة هي الأول وهويّة الأقليّة هي الآخر، ولا بدّ في النهاية من حاكم ومحكوم بحسب الأطروحة الثقافيّة التي تُعامَل بتقديس هائل؛ لا يمكن الإخلال بقدسيّته من لدن شعوب هذه الإشكاليّة.
تذكرني هذه اللعبة القاسية الأليمة بنكتةٍ أيديولوجيّةٍ بسيطةٍ في عمقها وعميقةٍ في بساطتها تُروى عن مجموعة مجانين احتلوا جزيرة، فأوّل مجنون وطأ أرضَ الجزيرة قال: أنا فخامة الرئيس، وثاني مجنون احتلّ منصبَ رئيس الوزراء وتتابع المجانين في التقاط الحقائب الوزاريّة واستيزارها حتى انتهى الأمر إلى آخر مجنون ذي حظّ عاثر؛ راح يفتش (بجنون!؟) عن حقيبة وزاريّة شاغرة فلم يجد، عندها صرخ بسؤال منطقيّ مُوجّهٍ إلى الحكومة الموقّرة وقد أخذ كلّ مسؤول فيها موقعه بجدارة، وأنا ماذا عساي أن أفعل بلا أيّة حقيبة وزاريّة؟
ردّ عليه الجميع وهم يرفلون بأردية الحُكم وبروح عالية من تسلّط الأكثريّة وجبروتها: هل يعقل أن تعيش حكومة بلا شعب؟ إذن أنت الشعب أيّها الزميل العزيز.
تأخذ إشكالية هويّة الأكثريّة وهويّة الأقليّة فلسفتها القهريّة من ثنائية المركز والهامش ذات الطابع السوسيوآيديولوجيّ، فثمة مركز دائماً يحظى بكلّ شيء يدور حوله الهامش الذي يعيش على الفتات والبقايا والأسمال، وأطروحة المركز والهامش أطروحة فلسفيّة بالأساس اشتغل عليها العقل الغربيّ وما زال؛ على الرغم من أنّ ديريدا فكّك هذه الثنائية ونقدها بآليّات منهج التفكيك في كتابه الشهير (الكتابة والاختلاف)، غير أنّ استنساخ هذه الأطروحة في المجتمعات العربيّة جرى على أوسع حجم ممكن منذ زمن بعيد، اجتهدت فيه الأكثريّة على تكريس هذه الرؤية القاهرة لكبح جماح الأقليّة من جهة، وللاستمتاع من جهة أخرى بمكاسبها ومُتَعِها ولذائذها إلى أقصى درجة ممكنة ومتاحة وبلا حدود.
لعلّ من أبرز ردود فعل الأقليّة على الأكثريّة فيما يتعلّق بممارسة الأشكال الإبداعيّة لمبدعي الأقليّة هو التشبث الصميميّ بالأشكال الإبداعيّة الثانويّة، بوصفها وسيلة خلاص وهويّة هامشيّة مميّزة بعيداً عن الأشكال المركزيّة التي تدين بالولاء الكامل لهويّة الأكثريّة، وسعي المبدعين المنتمين إلى فئة الأقليّة نحو تشكيل ثقافتهم وإبداعهم ورؤيتهم التي تسمح على نحو ما بتأكيد هويّتهم، والاجتهاد في خلق طرافة نوعيّة خاصّة في هذه الأشكال الإبداعيّة الثانويّة؛ التي يمكن أن تلفت الانتباه إلى أنّها ثورة ثقافيّة داخليّة عميقة على أشكال الأكثريّة الإبداعيّة الكلاسيكيّة، في سياق إيجاد بديل مختلف عن صوت الأكثريّة وإيقاعها ورؤيتها وحساسيتّها ونظامها الفنيّ والجماليّ المستقرّ، إذ إنّ جماليّات التعبير في الأشكال الإبداعيّة الثانويّة (أشكال الأقليّة) تخترق النظام ولا تبحث عن استقرار أو هدوء أو مُطابَقة أو مثال، بل على العكس تماماً فهي تسدّد لهذه المفاهيم سِهاماً ناريّة مسمومة تستهدف إصابةَ مَقتلٍ فيها، وداخل هذا الفضاء القلق بالذات تنتعش هويّتها المتفرّدة وتضاعف ثقتها بنفسها.
 على هذا الأساس يمكن القول بأنّ هناك شعر الأقليّة وسرد الأقليّة وتشكيل الأقليّة وسينما الأقليّة وغيرها، وهي بحاجة إلى فحص نقديّ ثقافيّ عميق ورصين ومسؤول يكشف عن طبيعة هذه الأنواع الإبداعيّة ويضعها في مسارها الصحيح، ويؤكّد انتماءها على نحو يكتسب فيه كلّ نوع شخصيّته وهويّته في سياق الأنواع الإبداعيّة السائدة، وبذلك يُكشَفُ عن حالة إبداعيّة تعكس وضعاً ثقافياً ورؤيوياً وأيديولوجياً له حضوره القارّ، ولا سبيل إلى تجاوزه أو إهماله أو التقليل من شأنه مهما كانت الظروف والأسباب والمبرّرات.