ثغرة الديمقراطيَّة

ثقافة 2023/12/13
...

حازم رعد

شيء متوقع أن تُخطئ الأفكار أو تشذّ الممارسات عن الصواب فيما لو كانت تقوم على قواعد غير صحيحة، وكل سلوك لا يمكن فهمه ما لم يخضع لمباشرة الواقع والاحتكاك به، ومن ذلك يسري الأمر إلى كلِّ النظريات والأفكار والسرديات الكبرى فنقطة الخطأ لا محالة صائرة لأنها الخطوة الأخرى فيما لو أخفقت الأولى.
وفي هذا المقال وددت تسليط النظر إلى واحدة من أهمّ الأفكار القديمة والحديثة وهي الديمقراطية التي تضرب بجذورها في عمق التاريخ وما زالت هي أجدر بل وأفضل ما بالإمكان من طرق الحكم التي توفر قسطاً كبيراً من العدالة والمساواة والحرية والحقوق حتى وإن قيل هي نسبية إلا أنها الأفضل المتوفر.
ولكن في هذه الديمقراطية ثغرة فظيعة جداً وهذه الثغرة هي غالباً سبب مأساة البلدان التي تتمثلها طريقة الحكم هذه وهي “مساواتها بالقيمة والنتيجة في ما يخص أصوات الناس في صناديق الاقتراع” فهل يا ترى من المعقول أن يتساوى في القيمة والنتيجة، صوت الإنسان الواعي الذي يبذل الجهد المعرفي ويبحث بتمعن عن الصواب والحقيقة وعن رفاه العيش والمصالح المشتركة، مع صوت ذلك الإنسان البعيد “البائس” الذي يخضع للميول والإغراءات والتي ربما تكون ليست ذا قيمة أو دنيئة للغاية فتغريه مدفأة أو مرتب على شبكة الحماية الاجتماعية أو شاحنة سبيس، تقدم إليه عوضاً عن صوته الذي سيقدم على إمضائه في صندوق الاقتراع العام، ليرهن بعد ذلك مصير ومقدرات بلد بكامله نتيجة للسخافة التي ارتكبها ذلك الصوت “وهو حقه بالتصويت” الذي منحته إياه الديمقراطية.؟
وهنا سيساوى بين صوت من دب ودرج ومن سفل وعلا وبين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، أمام الديمقراطية وفي صندوق الاقتراع سيكون صوت الفيلسوف والمفكر والمثقف والواعي مساوياً لصوت الانتهازي ومن يفكر بمصالح ضيقة ومن يفكر بربح نفسه على حساب كل الاعتبارات، هذه المعادلة وقبل قرون مضت لم يتقبلها مؤسس الأكاديمية “أفلاطون” حيث لم يستوعب أن تحصل مساواة بهذه الطريقة الفجة التي لا تنظر للفروق الحقيقية بين الأفراد والجماعات بين من ينظر بعين محملة بالوعي والتجارب وتنظر من زاوية عامة وتحسب لكل شيء حسابه بحكمة وأخرى لا تجد إلا الرغبة في الأهواء وتلبية الدوافع الذاتية المحملة بالمطامع والتنافس الممقوت وحب السلطة والخضوع لذوي النفوذ وما إلى ذلك، الدين كذلك لم يوافق على هكذا معادلة حيث اختصر العبارة بهذا النص القرآن ((قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) إذن نحن أمام إشكالية عتيدة، معضلة يصعب حلها بكلمات مستعجلة دون دراية وتفكير وبحث واستفادة من التجارب حتى يستطاع الوصول إلى حلول تقلل من الفجوة وتحد من طفح السذاجة وسيطرة مخرجات ما أفضت إليه.

هذه العلاقة الزبائنية التي باتت تنمو ما بين الفاعلين في السلطة من جهة والمواطنين “إن كانت حقيقة هذا الوصف ينطبق عليهم وإلا فكل شيء يشير إلى أنَّ عقلياتهم ما زالت تفكر على طريقة مؤسسات العالم القديم”، هذه العلاقة “الزبائنية نتيجة ضعف الأداء المؤسسي التربوي والتعليمي والثقافي في أخذ مساحته الفعلية بدعم وتعزيز الديمقراطية كوعي وممارسة وكذلك نتيجة جعل الديمقراطية مجرد أداة للحظوة بالسلطة وعدم اعتبارها ممارسة وثقافة لابد من نشرها داخل المنظومة الاجتماعية”.

إنَّ هذه الطريقة في الحكم الديمقراطية “رغم كونها أفضل من كل ما كان” إلا أنها تنطوي على ثغرات فادحة وهي بحاجة إلى إعادة نظر وإجراء تعديلات حقيقية تمس جوهرها وتجعلها أكثر إفادة وتقلل من التداعيات السخيفة والساذجة التي تؤدي إليها في بعض الأحيان في بعض الجغرافيات التي يعيش فيها بعض البشر أشباه تلك البقايا المتحجرة لمجتمعات بدائية اندرست.؟
هذه واحدة من مآسي الديمقراطية التي لم يوجد لها حل ناجع يكافحها ويقضي عليها ويكفي الناس الواعين والطموحين والطيبين سيئات ما تقترفه تلك النفوس الدنيئة والأصوات الخائبة التي لا حظ لها سوى أن تعيش يومها بأي شكل أو طريقة كانت فالمهم أن يعيش يومه ولو كان على حساب كرامته ومستقبل أولاده وحياة شعب بكامله، وإلا فإنَّ الديمقراطية جاءت لتصحح ما استطاعت من وعي الجمهور وتحد من غلواء التسلط والتفرد بالنفوذ وتساوي بين الأفراد على أساس قانوني ودستوري وبعض ما ينتج عنها “وبالخصوص ما نحن بصدده” لا يتناسب مع تلك المسؤولية وذلك الهدف المهم.
والديمقراطية بوصفها فكرة أنتجها العقل في لحظة اشتغاله واستشعاره لحاجة الواقع والناس إليها وكونها أحد مبتكرات التاريخ الطويل للتفكير الفلسفي تقع عليها مسؤولية إعادة النظر فيها بين الحين والآخر بغرض المراجعة التصحيحية وإعادة ضبط الفكرة والممارسة، لتصنع توازناً في ما بينها وبين الواقع والمعيش والطموح.