رشفةٌ من كأسِ الترسبات.. ألف ليلة وليلة أنموذجاً

ثقافة 2023/12/13
...

أحمد أبو ماجن

يوماً ما سألني صديقي عمَّ إذا كان هناك وجود فعلي لقصص ألف ليلة وليلة في الواقع العربي، فقاطعتُ كلامَهُ بسؤالٍ: كيفَ كان عملُكَ اليوم؟ فقالَ: بخيرٍ لولا توبيخ المدير لنا. فقلتُ: ما الأمر؟ فقالَ: اسمعْ... (وبدأ يقصُّ لي حكاية الصراع الأزلي المستمر بين المدير والموظف في المؤسسات الأهلية)، وما أن انتهى من حديثهِ، قلتُ: إنها حكاية مثيرة سأُبدلُ تسمية الشخصيات من المدير والموظف إلى التاجر والحمَّال، وأدسُّها في كتاب الليالي! فضحكنا....

إنَّ الحكي الشفاهي العربي دائماً ما ينطلق من نقطة واقعية محوريَّة تمثل قدحة الفكرة الأولى لصياغة العمل الشفاهي، وعلى الأغلب تكون القدحة مكررة في معظم القصص التي يمكن وصفها بالبدائية أو المرتبة ترتيباً حيوياً تصبّ في مصلحة إفهام المتلقي، أي إنها حدث واقعي يمكن روايتهُ أو نقلهُ لدواعٍ مختلفة أهمها الشكاية والمواساة والتسلية وما انطوت عليهِ مجالس النساء الخاصة، ولعلَّ في كل يوم مُنقضٍ من أيام الأفراد في كل عصرٍ ومِصر وعاءً مليئاً بالأحداث المختلفة (اللبنة) الأساسية في إثارة النقل والتداول، بهدف الإرشاد والعظة وإيضاح مسالك الأمور وبيان الانفعالات النفسية والسلوكية والتباين الفكري والطبقي والنفسي بين الناس، وإعادة تدوير ما يمكن رؤيتهُ بالعين ومعالجتهُ بالعقل، وطرحه بالشفاه على مائدة السمع، إذ يَكثُر مثل هذا في المجتمعات الشرقية، لكن لِمَ الشرقية بالتحديد؟ لقد انمازت هذه المجتمعات بالأسبقية الحضارية وظهور الحكي جزءٌ يمثل ترابط العلاقات الاجتماعية ونقل التجارب الشخصية للنصح غالباً، فضلاً عن علاقة الشعب بالسلطان، والخوف من الإقصاء، والردّ الناتج عن فعل الفضيلة/ الرذيلة. أما العامل الرئيس لذلك يرتبط بالتكوّن المادي لبيئة هذه المجتمعات والتدهور المناخي والكوارث الطبيعية الذي تنتج عنهُ تفسيرات معينة يشغلون بها أوقاتهم اليومية حين الاستكانة لبعضهم، ولاختلاف طبائع هذه المجتمعات أثر لا ينبغي تجاوزه إطلاقاً في تكوين القصّ، ومن هذه الطبائع الظلم كمفهوم عام وما ينطوي عليه من نميمة، وبهتان، ووشاية، إذ ركزت الديانات عليها في ما بعد، وكلها تتضمن مفهوم النقل بقصد الإساءة، والإيقاع بالآخر، والحقد، الغبطة، والتنافس اللا إنساني.
ومن البديهي ألّا تخرج هذه القدحة عن الأُطر الوظائفية المعتادة التي أشار لها فلاديمير بروب في كتابه (مورفولوجيا الحكاية) وهي كالآتي: (وظيفة الرحيل، وظيفة، وظيفة خرق المنع، وظيفة الاستخبار، وظيفة إطلاع، وظيفة خداع، وظيفة تواطؤ عفوي، وظيفة إساءة، وظيفة وساطة، وظيفة بداية الفعل المضاد، وظيفة انطلاق، وظيفة المنح، وظيفة رد فعل البطل، وظيفة تسلم الأداة السحرية، وظيفة انتقال، وظيفة صراع، وظيفة علامة، وظيفة انتصار، وظيفة تقويم الإساءة، وظيفة العودة..) والكثير من الوظائف الأخرى التي عمل شتراوس على دمجها وفق الثنائيات المتضادة/ المترادفة، وأيضاً غريماس في مربعه التحليلي. فليس هناك حكاية تخرج عن هذه الوظائف العامة في تكوينها الأساس، على الرغم من تطبيقها أول الأمر على الحكاية الشعبية الروسية تحديداً، لكنها أفادت بدورها البناء والمتن الحكائيّ العالمي بوجه عام، والعربي على وجه الخصوص في كتاب (في قصصنا الشعبي، نبيلة إبراهيم).
لكنَّ المثير للدهشة هو المضمون المترابط بين الحكايات سواء كانت أسطورية أو دينية أو شعبية، ونرصد ذلك نتيجة عملية التأثر والتأثير بين الثقافات المتوالية على بيئات تكاد تكون متصلة، ذات تصور فكري متقارب، ومترسب في الأجيال المتعاقبة، فضلاً عن عملية الترجمة والتدوين في العصر العباسي تحديداً والانفتاح الثقافي على ثقافات الشعوب الأخرى، ونلحظ ذلك في حكايات ألف ليلة وليلة مثلاً، إذ إنها منطوية على كم هائل من التشابه السردي مع السرديات الكبرى، ففي الحكاية الإطارية نجد طغيان شهريار الملك السادي، الفاتك بالنساء العذارى نتيجة تعرضهِ لخيانة زوجية، جعلت منه كائناً شهوانياً/ سادياً، منتقماً، لرغباته فحسب، حتى يظهر بوجه العدو/ الصديق (شهرزاد)، ففي البدء تظهر لهُ كندٍّ يقاوم سلطانه بالحيلة القصصية، إذ إنها عزفت على وتر الفضول الغريزي لمعرفة النهايات مقدمةً ذلك بكذبة تلفيقية تشدُّ من إثارتهِ بقولها: أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، والحقيقة هو لم يكن سعيداً جرّاء صراعه الذاتي عقب تعرضه للخيانة الزوجية ومعاناة أخيه شاه زمان من الأمر ذاتهِ، ولم يكن رشيداً فهو يفتقر للرشد والنتيجة ما وصل إليه سلطانه من دموية وإقصاء، نتج عن ذلك صداقة وإيناس بينه وبين شهرزاد، على الرغم من أنها اتخذته مع أختها متلقَينِ حاذقين لحكاياتها، والرجل البالغ والطفلة إشارة ذكية لبيان تلقي الحكايات من قبل الفئات العمرية المتباينة للمجتمع.
ونجد ذلك في ملحمة الخلود، (كلكامش) الشخصية الجدلية، فما قام به أقبح من فعل شهريار، لكنه يتوازى معهُ باغتصاب وقتل النساء بوحشية، حتى ظهر أمامهُ العدو/ الصديق (أنكيدو)، ففي البدء كان ظهوره منافساً شرساً لكسر شوكتهِ العنيدة، لكنَّ هذا الصراع انعكس إلى صداقة تجلّت فيها قيم الوفاء والإيثار والتضحية، ونتيجة ذلك نستشفُّ نهاية علاقة شهريار وشهرزاد المجهولة، التي تكللت ربما بالزواج والاستقرار الرتيب الذي لم ينتج عنهُ صراع مثير يحرك عجلة الحدث المحكي، وربما ترْكُ النهاية مفتوحة نوعٌ من الواقعية ليتخيل القارئ نهايتها حسبَ تصورهِ النفسي، وطابعهِ الشخصي، وطريقةِ تفاعلهِ الوجودي.
ونرصد أيضاً رحلة الكشف التي قام بها المَلِكان (شهريار وشاه زمان) وصعودهما الشجرة ومراقبة الجني وهو يفتح صندوقاً داخل صندوق داخل صندوق، فأخرج فتاةً جميلة كان قد خطفها من خطيبها عشقاً لها، لكن في لحظة غفلته نزل شهريار وأخوه ليستمعا لقصة الفتاة ثم عملت على إغوائهما وإيقاعهما في الخطيئة أكثر من مرة، وتبين أنها قد اعتادت الخطايا، وهذا نجده في قصتين مختلفتين، قصة المَلَكين (هاروت وماروت)، النازلين من السماء والوقوع بخطيئة الإغواء من قبل أستير/ عشتار، كذلك في التوراة القديمة والأبوكريفا والمدراش التفسيري، أنَّ المَلَكين (شيمهازاي وعزائيل) اللذين كانا ثقة الله ثم سقطا من السماء/ النزول، كما كان هاروت وماروت ثقةً عند الله أيضاً، (شهريار وشاه زمان) موضع ثقة شعبيهما قبل وقوع الخيانات، وتدور حكاية الجني والفتاة حول العفة المفقودة، وكيف أنَّ الفتاة المحفوظة في صناديق الجن المتعددة قادرة أن تخدع الجميع وتمارس غوايتها كما تودّ، فهي صرحت بأنها مارست الفاحشة مع تسعة وتسعين شخصاً مختلفاً، والأخير تجسد في الأخوين المَلِكين إذ مثلا العدد مئة، وهذا الحدث يمكن مقارنتهُ مع المَلَكين هاروت وماروت اللذين تميزا بالعفة الإلهية وملكوت السماء وكيف تم إغواؤهما من قبل أستير... ويمكن معالجة الأمر بأنه بعيد عن محض الصدفةِ بل التأثير واضح في حيثيات الليالي أجمع، وهذا يعود بالنتيجة إلى الذاكرة الشعبية، الحاضنة لتلك الترسبات الشائعة آنذاك، وإن لم تكن كذلك فالنخبة المجهولة التي كتبت الليالي كانت على علمٍ تامٍ بتلك الأساطير الإنسانية، مما قد تركت انعكاساتها بشكلٍ غير مباشر، أو هناك من عمل على امتصاصها لإعلاء قيمتها وجعلها قيمة أو ثيمة تداولية تقابل القرآن الكريم ربما في مرحلة ما.
ونرصد كذلك في تفاصيل حكايات الليالي الكثير من المفاهيم الأسطورية كالعالم السفلي والجن والسحر، والصراع مع الطبيعة، وتحدي القوى العظمي، مثل تحدي برومثيوس لآلهة الأولمب، ومعاناة أورفيوس العازف، وأيضاً المفاهيم الدينية كعذاب القبر والحيات والعقارب، والجنة والنار، فالمخيال الشعبي ناتج عن ترسب ثقافي طويل الأمد يثق تماماً بالمبالغة والتهويل في صنع الحكاية لتكون بالنتيجة غرائبية/ إدهاشية عائمة في قنصِ ما تعارفت عليه الأمم، وتركت أثراً بالغاً في التلقي الشعبي، ونلحظ ذلك في البيئة الشرقية القائمة على مفهوم الأسطورة والخيال ابتداءً من التفصيلات اليومية مروراً بالسرديات الكبرى المؤسِسة للمفاهيم التعبدية/ الأسطورية غالباً، في تنظيم حياة مجتمعاتها وجعلها حلقة مستضعفة تماماً أمام القوى الغيبية المتمثلة بالغيب/ القدر/ العوالم العليا/ الأولمب/ الفالهالا، وكل عوالم الجزاء البَعدي في الديانات الأم.
لن ينتهي دور الليالي عند حدِّ التأثر بما سبقها بل تعدى دورها لتترك تأثيراً في المقدس وروايات الغلو الخرافية المعروفة، الذي تبلور بعد شيوعها في العالم العربي قبل أن تقتحم العالم الغربي وتفرض وسامتها الساحرة كتحديدٍ حيوي للسرد الغربي بعد نقلها من قبل المستشرق الفرنسي غالان، لذلك يمكن عدّها حجر زاوية في الثورة الفرنسية، حتى قيل إنَّ النتاج البشري يتلخّص في ثلاثة كتب (الكتاب المقدس، وأشعار ملحمتي الألياذة والأوديسة، وألف ليلة وليلة)، إذ كانت بمثابة الجسر الحكائي الأبرز بين الماضي والمستقبل، وليس هذا فحسب وإنما الجيل العلماني الرافض لقولبة الكنيسة الذي أقام الثورة الفرنسية الكبرى كان قد احتكم إلى العقل بوصفه موجهاً منطقياً للبحث عن الحقائق المغيبة، ورفض الخرافة والأساطير التي تبثها هذه المؤسَسة في أذهان المجتمع، فما كان للعنفوان الشبابي الفرنسي المُحب للأساطير والخرافات إلا أن يستعين بحكايات ألف ليلة وليلة تعويضاً أدبياً يتبلور عنهُ انفتاح الأفق المعرفي واتساع المخيلة، فحضورها كان بمثابة المفتاح غير المباشر في فتح صناديق السحر والفنتازيا الغربية آنذاك، وأثرت في الرومانسية والواقعية السحرية في ما بعد وأيضاً في السينما والموسيقى والفنون الأخرى.
ومن المعروف تأكيد (فولتير) أهمية كتاب ألف ليلة وليلة حين قال: (لم أصبح قاصاً إلا بعد أن قرأت ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة). أما الناقد والروائي الفرنسي ستاندال فقد أعجب بها وتمنى ذات يوم أن يُصاب بفقدان الذاكرة حتى يعيد قراءة حكايات ألف ليلة وليلة، ويستمتع بها كما استمتع بها في أول قراءة. ويؤكد أيضاً (أناتول فرانس) أنّه تتلمذ على حكايات ألف ليلة وليلة قبل أن يكون أديباً. ومن أهمّ التصريحات المؤيدة للفضل الأسطوري العربي، تصريح المستشرق سلفستر دي ساسي؛ إلى أثر العرب في تعليم الأوروبيين للابتكار، فقال: (يجب أن نعد العرب معلمين لنا في ابتكار الأحداث الشيقة، والعناية والاهتمام المستمر من خلال عالم الأساطير المتألق للسحرة والعجائب، وما يجعل العالم أكثر اتساعًا وثراء وينمي القوى الإنسانية، وينقلنا إلى آفاق الروعة، ويثير دهشتنا حيال المفاجآت). وهذا التجلّي يبدو واضحاً في روايات بورخيس، وامبرتو إيكو، وكاولو بويلو، وغابريل غارسيا ماركيز وغيرهم، وهذا الصدى لا يمكن حصره فالكثير من الروايات قُدم وفق هيكلية الليالي، واعتمادها البنية الانشطارية تحديداً، وهذا دليلٌ على إرهاصاتها في الأدب الغربي وتماهيها بقوة مع ما تملكه من سحرٍ فريد وخيالٍ شيّق، يجعلها تتوج بالفرادة المميزة والانبعاث المستمر، إذ يقول الناقد عبد الفتاح كليطو: (إنَّ كتاب ألف ليلة وليلة ما زال يكتب حتى الآن)، وهذا إن دلَّ على شيء فإنهُ يدلُّ على خصوبة الفكر الشرقي الباعث لموجات البُعد ما وراء الواقعي، الباحث عن عوالم تخييلية/ تعويضية، يفادُ منها في الدرجة الأساس في خلقِ نوعٍ من الرضا النفسي والاقتناع بما يدور في فضائهم من صعوبات وشيكة لا تُقلل من عزيمتهم أو تُضعف من شكيمتهم وهم يتسلّحون بالقصِّ من أجل الحياة.