نواحٌ وفقرٌ وأشياءٌ أخرى

الصفحة الاخيرة 2023/12/17
...

محمد غازي الأخرس

ومن أمثال النساء قولهنَّ: البين علمني المناحة والفكر علمني الشحاحة، ويضرب لتبرير اتسام القائل بصفتين هما طول الحزن وكثرة النواح، من جهة، والشح والحرص، أو ما يظن أنَّه بخل، من جهة أخرى. فالصفتان ليستا طبعاً بل هما تطبعٌ مكتسبٌ بفعل ترادف الفجائع، من جانب، وضيق ذات اليد، من جانب آخر.
إنَّ هذا المثل رائعٌ لأنه يختصرُ رؤيَّة هي خلاصة لمراقبة طويلة وصبورة ذات طابعٍ اجتماعي لأحوال الناس وصفاتهم، فكأنَّ من وضعه أجهدَ نفسه في دراسةٍ معمقةٍ لواقع الناس، فميز بين النائح بطبعه والنائح بفعل مصائب الدهر، وبين الشحيح البخيل كما خلقه الله، وبين من اكتسب هذه الشحة كردة فعلٍ على اتسامه بالفقر المادي.
بالنسبة للنواح، لا سيما مع النساء، يعودُ الأمرُ إلى تتابع المحن والكوارث العائليَّة، ومع تتابعها، تعتادُ المرأة البكاء وتتحول إلى ذاتٍ مكسورة ، سريعة الدمعة، تجيد النواح وتبرع في النعي، وهذه هي حال أمهاتنا وخالاتنا وعماتنا اللواتي اعتدن البكاء يومياً، بمناسبة وبدونها. ذلك أنَّ قلوبهنَّ تكسرت من فرط تكرار المآسي، فتطورت إمكانياتهنَّ في الترنم وحفظ المأثور من المراثي عاماً بعد عام، حتى إذا اكتملت العدة، صرن ماهرات ذوات أداءٍ مبهرٍ جمالياً. وإنَّه لمن العجيب والغريب أنْ يكون الجميل مبكياً والمبهر فنياً مدراً للدموع.
في كل الأحوال، في الأمثال يقولون: لا تعلم اليتيم عله البجي! أو: لا تعلم اليتيم عل اللطم، والمثل هذا عربيٌ قديم، أول من قاله رجلٌ يدعى زهير بن جناب الكلبي. وتفيد الحكاية أنَّه بعد إحدى الغزوات التي قتل فيها رجالٌ كثيرون، جاء الناس لهذا الرجل يسألونه عن آبائهم واخوتهم، ولما انتهى الأمر بفتاة مسكينة سائلة عن أبيها، أخبرها أنَّه قتل. هنا بكت الفتاة بكاءً مراً، فقال رجل: ما أسوأ بُكَائها، فردَّ زهير: لاَ تُعَلِّم اليتيم البُكاء، وكان يعني أنك قد تعجلت في الحكم، فاليتم سوف يحسن البكاء مستقبلاً، لهذا لن تكون الفتاة بحاجة لمن يعلمها ذلك.
وورد المثل أيضاً بصيغة: لا تعلم اليتيم على الصياح، وهو لا يزال مُستخدماً عند أغلب الشعوب العربيَّة، في السودان يقولون: اليتيم ما بعلموه البكا، وفي المغرب : لا توصي يتيم عل بكاه، أما في مصر فيقولون: كتر الحزن يعلم البكا.
في الشق الثاني من المثل: الفكر علمني الشحاحة، ثمة اعتذارٌ مبطنٌ عن أسوأ صفة كرهها العرب وهي البخل، فقائل المثل يبدو وكأنَّه يكشفُ عن علّة ما يراه الناس فيه من شحٍ وحرص، ذلك أنَّ "الجود من الماجود"، كما يقول العراقي، والمعنى هو الآخر عرفه العرب قديماً فقالوا: غاية الجود بذل الموجود، أي أنَّه بغض النظر عن قيمة ما يوجد لدى المرء، فإنَّ منتهى الجود هو بذله، وحينئذ يستوي جود الغني والفقير، بل إنَّ جود الفقير سيكون أعظم لأنَّه لا يملك الكثير كما في حالة الغني، لهذا مدح الله سبحانه أولئك الذين (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وَمَن يُوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
كل هذا مفهومٌ ومعلومٌ، وعليه عشرات الأدلة، لكنَّ السؤال هو: لماذا جمع المثل كثرة الحزن مع الشح المادي، فقال: البين علمني المناحة والفكر علمني الشحاحة؟ سؤالٌ يحتاج وقفة أخرى فانتظروا.