غزَّة والإعلام.. الحُرِّيَّة الجديدة

منصة 2023/12/20
...

  محمدحسين الرفاعي


(1)

تحترف المؤسسات العالَميَّة ممارسة الأكاذيب على نحو جديد. صارت تتميز بأفعال لا تختلف عن أفعال العصابات والشياطين. إنَّ البحث عن القيم الأخلاقية والإنسانية في ما يصدر من هذه المؤسسات، إنَّما هو بحث ذات جذر ناتج عن تربية دينية ترى العالَم من منظار ليس واقعيَّاً ولا هو حقيقيّ. في الحقيقة، هي تنظر للمجتمعات العربيَّة وما على شاكلتها على أنها فئران مختبرية لجملة ما تتوصل إليه فـي التكنولوجيا والعسكر والعلوم. يمكن، في هذا المضمار، ملاحظة ما يأتي:

 1 - شعارات واِدعاءات العالَم أصبحت بمثابة أكاذيب تلعب دور التشويش على الوعي الأصليّ بهمجية هذه المؤسسات وتوحُّشها الحديث، والجديد جدًا. 

2 - لا تخدم، ولا تعترف هذه المؤسسات بأي دولة أو مجتمع لا يتواطئان مع سياساتها الاِقتصادية والسياسية والثقافية. 

3 - لم تعد تخدم إلاَّ الأقوى، ولا تفهم لغة غير لغة القوة والقدرة والإمكان. 

4 - أثبتت المجتمعات العربيَّة، الكثير منها، أنها قد تجاوزت دولها وقوانينها وتشريعاتها في فهم العالَم. 

5 - لا يبقى للإنسان، عندها، أي معنى، ولا للوعي الإنساني أي قيمة، إذا لا يكون تابعًا لسياساتها. 

6 - القضايا الأخلاقية والإنسانية عندها تبقى ذات أهميـة بقدر ما ترتبط بمصالحها، وسياساتها في السيطرة والهيمنة والاِستحواذ. 

7 - إنَّها تتوفَّر على إمكانيَّة أن تُعدم كل مـا هو يقع على النقيض منها، بواسطة خلق نقيض جاهز وتوهيم العالَم بأنَّه يقع على الضدِّ منها.

(2)

وهكذا يمكن أن نتعرف إلى السياسات الجديدة في وسائل التواصل الاِجتماعي، بخاصَّةٍ في الفيس بوك والاِنستغرام، التي تتضمَّنُ تقييد الحُرِّيَّة إلى مستوى يتناسب مع مصالح المؤسسات العالَمية التي أثبتت، على نحو جلي، أنها تقف على الضِّدِّ مِنْ المساواة والعدل والحرية، في المعنى العامّ والعالَمي، أي الشامل لها. إنَّها مسألـة تفتح أفق الفهم نحو إشكاليات من نوع جديد، تأتي، على أقل تقدير، على النحو ذا: 

1 - تدَّعي هذه الوسائل أنها تفتح مجالاً كبيرًا أمـام الناس من أجل قول الحقائق، وممارستها، ونشرها؛ وفي الوقت نفسه، هي تمنع الناس من قول حقائق لا تتوفَّر على إمكان خدمة تكذيب الحقائق الـذي تمارسه هي، وتزييفها، والترويج لما يتناسب مع معاييرها للحقيقة.

2 - ضمن مفهوم الحقيقة، أضافت، هذه الوسائل، معنى جديدًا هو تحويل الحقيقة إلى قول مُسيطرٍ عليه. أي تحويلها إلى شيء جاهز قبليَّاً. 

3 - تمارس هذه الوسائل تناقضًا صريحًا في فهم ذاتها، واِستمرارها في التاريخ البشري؛ إنَّها تارةً تفهم العالَم على أنَّه قرية واحدة، وتارةً أخرى، تفصل فصلاً كاملاً بين مفاهيم تتناسب مع مجتمعات دون أخرى، مع أشكال ثقافية دون أخرى؛ تفهم هذه على أنها إنسانية، وتفهم تلك على أنها يجب أن تخضع لتلك الإنسانيَّة المزعومة. 

4 - إنَّ التَّساؤل: هل يمكن التوفُّر على الحقيقة من خلال وسائل التواصل؟ أصبح تساؤلاً ساذجًا. يجب أن يُبنى ثانية هكذا: أيمكن أن تكون الحقيقة في شروط إمكان قبلية مفروضة عليها مِنْ قِبَلِ مَنْ / ما يتوفَّـر على إمكان إعادة رسم كل شيء من أجل حجبها، أو تزييفها؟


(3)

لم نعد، بعد الثورة السايبرانية (ثورة شبكات التواصل بين المجتمعات والثقافات)، أمام إنسان عادي. 

الإنسان في هذا العصر، يعرف شيئًا عن كل شيء يحتاجه في الحياة، تقريبًا. إنَّه لا ينتظر رأي النخب (الأنتلجنسيا)؛ أولئك الذين لا رأي لهم إلاَّ [بَعْدَ- حينٍ]. إحدى نتائج هذا الضرب من المعرفة هي الحِياد المُعلَّم والمُهذَّب أخلاقيَّاً وإنسانيَّاً عند الإنسان، بعيدًا عن اِنتمائه الديني والقومي والسياسي والطائفي.

يمكن أن نقول ببساطة أن الإنسان في هذا العصر أصبح قادرًا على التمييز بين الأكاذيب الصريحة، والتلاعب بالحقائق اللَّذَيْن تمارسانهما وسائل الإعلام والتواصل الاِجتماعي. 

هكذا نجد أن مسألـةً كانت إلى وقت قريب مسألة العرب وحدهم، والفلسطينيين وحدهم، أصبحت تثير إشكاليات وتساؤلات عديدة عند الشباب العالَمي. 

تجد تجسداتها في الملاعب والمقاهي والأماكن العامَّة ووسائل التواصل. 

لذا أمكننا العثور على أصوات على الضد من سياسات المتلاعبين بالعالَم من داخل مجتمعاتهم. 

إنَّ الحُرِّيَّة الجديدة، والحال هذي، إنَّما هي تستمد وجودها ومسوِّغَها من التفلُّت من سياسات الحُرِّيَّة القديمة.