شجرة الزيتون.. ذاكرة خضراء منتشية بأغاني الحنين

منصة 2023/12/20
...

 عمان : يعرب السالم


مع بداية فصل الخريف في كل سنة يستعد الأهالي والمزارعون الأردنيون لقطف وجني الزيتون وبالذات في أواخر الخريف الى نهاية السنة. وهناك من يقوم بقطاف محصوله كاملاً والبعض الآخر من يتأخر في قطف الزيتون، وتفسيره أنه يقوي الشجرة. وقد جرت العادة بقطف المحصول سنة وتركه سنة، لأنَّ الشجرة عادة تحمل إنتاجاً غزيراً في سنة ويقلُّ إنتاجها في السنة التي تليها وأحياناً لا تحمل. وتعدُّ شجرة الزيتون من الأشجار المُعمرة فهي تعيش فتراتٍ طويلة تتجاوز المئة عام وقد تستمر أكثر من ذلك بكثير وهذا يعتمد على نوعها والظروف المناسبة لها كتوفر الماء والاهتمام بتقليمها، ولا بُدَّ من ذكر أنَّ الموطن الأساسي للزيتون هو أرض فلسطين.

في الأردن تنتشر هذه الشجرة في جميع الأنحاء الجبلية والتلال والمناطق السهليَّة بسبب خصوبة التربة واعتمادها على الأمطار الديميَّة. ويلاحظ أنها تزرع في المنازل بكثرة وعلى الأرصفة وبين أزقة الأحياء السكنيَّة. ولشجرة الزيتون عند الأردنيين مكانة مهمَّة في حياتهم؛ لأنها تذكرهم بأجدادهم وآبائهم، وكيف قاموا بزراعة هذه الشجرة المباركة التي ذكرت في أكثر من موقع في القرآن الكريم، منها على سبيل المثال لا الحصر في سورة التين «والتين والزيتون وطور سينين».

كما أنَّ لقطاف الزيتون طقوساً خاصة توارثتها الأجيال منها ما يذكره لـ«الصباح» المزارع أحمد الطويل الذي يقول «ما أنْ ننتهي من قطاف محصول الزيتون وتحميله لغرض عصره في المعاصر القريبة، حتى نبدأ بما تعلمناه من أجدادنا وآبائنا بمدِّ يدِ العون للجيران من أصحاب المزارع الأخرى القريبة منا، وهذه العمليَّة نسميها (العونة)؛ أي تقديم العون والمساعدة لجيراننا من أصحاب أشجار الزيتون ومساعدتهم في القطف».

جمال بني يونس صاحب مزرعة زيتون يضيف إنَّ «تقاليد قطف الزيتون التي أسسها الأجداد تزيدُ من التكاتف والترابط الاجتماعي للمجتمع الأردني. ويضرب مثالاً على ذلك أنَّه في حال أنَّك كنت لا تملك أحداً لقطف محصولك، فإما تعتمدُ على العونة بقيام جيرانك بمساعدتك، أو أنْ يقوم القاطفون بأخذ ربع أو ثلث المحصول بالاتفاق من دون أنْ تدفع لهم أجراً، وكذلك الأمر مع معاصر الزيتون. ففي حال أنَّك كنت لا تملك ثمن العصر فإنَّ صاحب المعصرة يأخذ نسبة من زيت الزيتون بالاتفاق أيضًا. وهذا الأمر يسهل التعامل ويعيدنا الى بدايات التعامل التجاري في العصور القديمة، عندما كانت التجارة تتمُّ بالتبادل قبل أنْ تكون هناك عملة».

ويذكر عن أحد أجداده أنَّ التعامل كان بالكيل بمكاييل خاصة من زيت الزيتون فهو بمثابة النقود في الفترات السابقة».

ويضيف «سواء كان الهدف من قطف الزيتون تموينه أو عصره وبيع زيته أو بقاياه من العجوة، يبقى لهذا الموسم نكهة خاصة للأسر الأردنيَّة فهي تجتمع في الخريف متمسكة بجميع الطقوس المرافقة للقطاف، ورغم وجود مكننة وآلات حصاد حديثة إلا أننا نفضل قطف الزيتون باليد فهكذا تعودنا، أنْ نجتمعَ ونلتقي في كل موسم قطاف في البساتين وهو أشبه بكرنفال أخضر مليء بالمحبة».

ويقول أحمد الماجد قاطف زيتون إنَّ «شجرة الزيتون شجرة مباركة فهي توفر فرص عمل للكثير من الشباب والأسر ونحن نعمل بمجاميع، وهناك عوائق مثل قلة المحصول. وكما هو معلوم فإنَّ شجرة الزيتون تعطي ثمارها سنة والسنة التي تليها تكون خفيفة جداً أو لا تحمل ثماراً، وهذا لا يحقق لنا دخلاً جيداً قياساً بالجهد المبذول، كما أنَّ عمليَّة القطف تحتاج لأيادٍ متمرسة على المهنة كي لا تؤذي الشجرة، كما في طريقة استخدام المشط المعروفة. والصعوبة الأخرى هي أننا نفصل الورق عن الزيتون باليد حرصاً على جودة الزيتون، كما أنَّ هذه الطريقة تمنع إصابة الشجرة بالآفات، هذا فضلاً عن ضرب فروع الشجرة وهزها من دون إيذائها، وهذا يحتاج الى جهدٍ كبير. وبعد هذه العملية يتمُّ نقل محصول الزيتون للمعصرة، وهناك من يستخدم الآلات الحديثة في فصل الورق عن الزيتون، بينما آخرون يفضلون المعاصر الحجريَّة القديمة وعصر الزيتون بطرقٍ تقليديَّة، فهم يعدونها تؤمن الزيت بجودة عالية، رغم أنَّ المعاصر الحديثة تعصر الزيتون بوقتٍ أقل وبجودة جيدة، لكنَّ الرأي السائد بين الفلاحين بحسب خبرتهم أنَّ الطريقة التقليديَّة هي الأفضل».

ويضيف أنَّ «الطقوس المرافقة هي أجمل ما يكون مثل ترديد بعض الأغاني القديمة الخاصة بقطف الزيتون مع وقت الغروب مثل أغنية «على دلعونا وعلى دلعونا.. زيتون بلادي أجمل ما يكونا» وكذلك أغنية «نقعد تحت الزيتونة ونجول الحبة بالإيد». وغيرها كثير وكلها نغنيها بشكل جماعي، فهي تبعث الفرح وتبث روح التعاون فينا وتخفف عبء وصعوبة العمل.

ويذكر المهندس خالد العمري صاحب معصرة أنَّ «الزيتون يمرُّ بمراحل مختلفة قبل أنْ يستخرج منه الزيت المائل للاخضرار مع تركيبته السميكة التي تدلُّ على الجودة قياساً ببقية الزيوت، وأنَّ الزيت القديم الذي مرّ عليه أكثر من عامين والأقل جودة فيحوله البعض الى صابون «بلدي» كما يسمونه. وهو مفيدٌ للبشرة ويقوي الشعر ويقي من بعض الأمراض الجلديَّة وهو نوعان. نوع أبيض اللون ونوع أخضر».

وتتلخص المراحل ابتداءً من مرحلة فصل الأوراق الى مرحلة العصر على الحجر الذي يستمر بالدوران لفترات طويلة وذلك لهرس الزيتون وصولاً الى مرحلة وضعه على القماش وجمعه على شكل رزمٍ بأحجامٍ متساوية ويتمُّ ضغطها في آلة المكبس لاستخراج الزيت. أما بقايا الزيتون الجاف فيستخدم للتدفئة في القرى والأرياف.

وبرغم ما لموسم قطف الزيتون من بهجة وفرح لدى الأردنيين، إلا أنه لا يخلو من تعبٍ وإرهاقٍ؛ لأنَّ العمليَّة يدويَّة بالإضافة للغبار المصاحب عند هز الأشجار وحرارة الشمس التي تحرق وجوه القاطفين بسبب بقائهم معلقين على الأشجار ساعاتٍ طويلة من النهار، ودائماً ما يجرح أو يصيب غصن ما أعينهم فيتعرضون لإصابات غير متوقعة، فالعملية محفوفة بالمخاطر وليست نزهة. 

وتحتاج لجهد عضلي وصبر كبيرين، لأنَّ الغاية هي الإنجاز في فترة قصيرة بمشاركة الأسرة، والكثير منا ربما ينقطع عن المدارس أو الجامعات في سبيل مساعدة أهل بيته، فالموسم كما ذكرت هو موسم تعب وشقاء وجني برغم فرحنا به. فنحن نحمل همه كل عام لكنه يبقى حدثاً حاملاً نكهة خاصة تذكرنا بتاريخ أجدادنا، وتقليد تراثي فيه خضرة وحنين من نوع خاص تطيب به نفوسنا وهي تشدو بأغاني القطاف، لترسم ملامح تجربة ثرّة في وعي الأجيال الناشئة والتي بدورها ستسلم غصن الزيتون الأخضر للأجيال التي تليها.