الخشب الشفاف.. لماذا يصنعه العلماء؟

علوم وتكنلوجيا 2023/12/25
...

  جود كولمان
  ترجمة وإعداد: أنيس الصفار                                        

قبل ثلاثين عاماً عبّر عالمُ نباتٍ ألماني عن أمنية بسيطة، وهي أنْ يرى العمليات الحيويَّة الداخليَّة التي تجري في النباتات الخشبيَّة من دون حاجة لتشريحها. وقد تمكن "سيغفريد فنك" بالفعل من إنتاج "خشب شفاف" من خلال إزالة الصبغات من الخلايا النباتيَّة، ثم نشر تقنيته تلك في مجلة متخصصة بتكنولوجيا الخشب. بقيت ورقة البحث تلك منذ العام 1992 بوصفها أحدث إنجازٍ في عالم الخشب الشفاف لأكثر من عقدٍ من الزمن الى أنْ وقعَ عليها باحث اسمه "لارس بيرغلاند".

شاشات فائقة القوة
كان اكتشاف فنك ملهماً لبيرغلاند، ولكنْ لأسبابٍ لا علاقة لها بعلم النبات. فبيرغلاند كان عالم مادة يعملُ في معهد "كي تي أتش" الملكي للتكنولوجيا في السويد وكان متخصصاً بمركبات البوليمير ومهتماً بإيجاد بديلٍ للبلاستيك الشفاف يفوقه قوة. لم يكن هذا العالم هو المهتم الوحيد بخصائص الخشب، فعلى الجانب الآخر من المحيط كان الباحثون في جامعة ماريلاند منشغلين أيضاً بهدفٍ ذي صلة.. وهو تسخير قوة الخشب لأغراضٍ غير تقليديَّة.
الآن، وبعد سنواتٍ من التجارب بدأت أبحاث هاتين المجموعتين تعطي ثمارها. فالخشب الشفاف قد يظهرُ قريباً للاستخدام في شاشات الهواتف الذكيَّة فائقة القوة، وفي وسائل الإنارة المنزليَّة هادئة الأضواء وحتى في تراكيب البناء الهيكليَّة، مثل النوافذ متغيرة الألوان.
يتألف الخشب طبيعياً من قنواتٍ طولية صغيرة لا حصرَ لها تمتدُّ رأسياً في ما يشبه حزمة متراصَّة من قشة شرب السوائل مضمومة الى بعضها بمادة صمغيَّة. هذه الخلايا الأنبوبيَّة هي التي تعملُ على نقل الماء والعناصر الغذائيَّة عبر أجزاء الشجرة، وعندما تقطعُ الشجرة وتتبخر الرطوبة تتخلفُ جيوبٌ من الهواء مكانها. ولأجل صناعة خشبٍ يسمح بالرؤية من خلاله يجب على العلماء أولاً تعديل أو إزالة المادة الصمغيَّة المسماة "لغنين" التي تمسكُ حزم الخلايا الى بعضها وتعطي جذوع الأشجار وأغصانها ألوانها البنيَّة الترابيَّة. ومن بعد تبييض اللغنين أو إزالته يتبقى هيكلٌ بنائيٌّ من الخلايا الجوفاء ذات اللون الأبيض الحليبي.
يبقى هذا الهيكل معتماً غير نفاذٍ للضوء؛ لأنَّ جدران الخلايا تحني مسار الضوء بدرجة مختلفة عمَّا يفعله الهواء داخل الجيوب الخلويَّة، وهي قيمة يطلق عليها اسم "معامل الانكسار". لكنَّ ملء الجيوب الهوائيَّة بمادة أخرى، مثل راتنج الإيبوكسي، يعيدُ حني شعاع الضوء بدرجة مماثلة لجدران الخليَّة وهذا يجعل الخشب شفافاً نفاذاً للضوء.

يتفوقُ على البلاستيك والزجاج
المادة التي يعملُ عليها العلماء رقيقة السمك، إذ يتراوح سمكها طبيعياً ما بين أقل من الملليمتر الى ما يقارب السنتمتر. لكنَّ الخلايا تبني هيكلاً متيناً شبيهاً بنخاريب النحل، وألياف الخشب الدقيقة أقوى بطبيعتها من أفضل ألياف الكاربون، كما يقول عالم المواد "ليانغبنغ هو" الذي يرأس فريق البحث في جامعة مريلاند، وعندما يضاف إليه الراتنج يتفوقُ أداءُ الخشب على البلاستيك والزجاج. ففي الاختبارات التي أجريت لقياس مدى سهولة تشقق المواد أو تكسّرها تحت الضغط أثبت الخشب الشفاف أنَّه أقوى بنحو ثلاث مراتٍ من البلاستيك الشفاف (مثل بليكسيغلاس) وبنحو 10 مرات من الزجاج.
بيدَ أنَّ الخشب الشفاف يبقى محتفظاً عادة بخصائصه كخشب، وهذا يكسبه جمالاً طبيعياً. فالقطعة التي صنعها العلماء في جامعة مريلاند تبدو أشبه بالزجاج الضبابي ولكنها أفضل عزلاً للحرارة.
هذه العملية كانت ناجحة أيضاً في الخشب الأكثر سمكاً ولكنَّ المشهد عند النظر إليه من خلال تلك المادة كان أكثر ضبابيَّة لأنها تشتت مقداراً أكبر من الضوء. ففي دراستيهما الابتدائيتين في العام 2016 وجد بيرغلاند و"هو" معاً أنَّ الصفائح ذات سمك ملليمتر واحد، المكونة من هياكل خشبيَّة ممتلئة بالراتنج، تسمح بمرور 80 – 90 % من الضوء الساقط. لكنْ بزيادة السمك الى حدودٍ تقارب السنتمتر انخفضت نسبة الضوء النافذ، وتفيد تقارير مجموعة بيرغلاند بأنَّ الخشب بسمك 3,7 ملليمتر يسمح بمرور 40 %  من الضوء لا أكثر.
رقة سمك هذه المادة مع القوة تعني أنَّها تصلح بديلاً ممتازاً للمنتجات المصنوعة من رقائق البلاستيك أو الزجاج سهلة الكسر، مثل شاشات العرض. فشركة "فودو" الفرنسيَّة مثلاً تستخدم عمليَّة مماثلة لإزالة اللغنين لإنتاج شاشاتها المصنوعة من الخشب، لكنَّها تُبْقي قليلاً منه لإضفاء لمسة لون جماليَّة. هذه الشركة تعيدُ تصميم شاشاتها الرقميَّة الحسَّاسة للمس القابلة للتدوير في صنع منتجاتٍ أخرى مثل لوحة العدادات في السيارات وشاشات الإعلان الكبيرة في المناطق العامَّة.
بيدَ أنَّ معظم الأبحاث يركز اهتمامه على الخشب الشفاف كميزة معماريَّة، لا سيما في النوافذ. فالخشب أفضل عزلاً للحرارة من الزجاج بكثير، لذا يمكن أنْ يساعدَ على حفظ حرارة المبنى الداخليَّة، أو منع الحرارة الخارجيَّة من الدخول. كذلك استخدم "هو" وزملاؤه مادة بوليفنيل الكحول، وهو بوليمر يستعملُ في الأصماغ وتغليف المواد الغذائيَّة، وجعلها تتغلغلُ داخل الهياكل الخشبيَّة، ما يجعل الخشب الشفاف أقل توصيلاً للحرارة من الزجاج بخمس مرات.

احتجاز الحرارة أو إطلاقها
بل إنَّ الباحثين لا يزالون يخرجون علينا بتعديلاتٍ ولمساتٍ أخرى ترفعُ من قدرة الخشب على احتجاز الحرارة أو إطلاقها حسب الحاجة، وهذا قد يكون مفيداً في المباني التي تحرص على الاقتصاد بالطاقة، إذ تجري بعض المعاهد في السويد تجاربَ على المواد متغيرة الطور، القادرة على اختزان الحرارة أو إعادة إطلاقها بالانتقال من الحالة الصلبة الى السائلة أو بالعكس. فمن خلال دمج مادة بولي إثيلين غلايكول مثلاً وجد العلماء أنَّ الخشب الذي بين أيديهم يمكن أنْ يختزنَ الحرارة عندما يكون الجو دافئاً ثم يعيد إطلاقها عندما يبرد.
النوافذ التي ستستخدم الخشب الشفاف إذاً ستكون أقوى، كما ستساعد في التحكم بالحرارة على نحوٍ أفضل من الزجاج الاعتيادي، لكنَّ الرؤية من خلالها ستكون ضبابيَّة أقرب الى الزجاج الثلجي منها الى الزجاج العادي. ولو أنَّ الرؤية الضبابيَّة قد تكون مرغوبة أحياناً بالنسبة لبعض المستخدمين الذين يفضلون الضوء المشتت، مثلاً عند استخدامه في السقوف لإدخال ضوءٍ طبيعيٍ هادئٍ ناعم.
عن مجلة "نوابل"