غادة السَّمَّان.. العاشقة في محبرة

منصة 2023/12/26
...

 أحمد عساف 

منحت غادة السمان التي كانت من أكثر الكتاب خصوبة في عالم الأدب وأجناسه، شعورا متعمدا بإلغاء المسافة الفاصلة بينها وبين العديد من أبطال كتاباتها، غاية في التماهي معهم في القدر الذي لا يملكون فيها وجوداً فردياً، بل هم نماذج عن مبدعتهم نفسها.  

اشتغلت السمان بالخاطرة الشعرية منذ وقت مبكر، ثم قصيدة النثر والقصة القصيرة والرواية، كما أتيح لمؤلفات "أميرة الأديبات العربيات" كما أطلق عليها يوسف إدريس أن تنقل إلى لغات متعددة، عبر ترجمتها.

نشرت أعمالها القصصية في مجموعة "عيناك قدري 1962"، ومن ثم "لا بحر في بيروت"، و"ليل الغرباء" و "رحيل المرافئ القديمة"، و "زمن الحب الآخر"، و"القمر المربع". 

وتقول غادة في حوار سابق لها، إن "العلاقة بين الواقع الخام والإبداع الفني، هي علاقة تكامل وتداخل، وأحياناً يحدث العكس، أي آتي ببعض الشخصيات لأقول فكرة، وأترك تلك الشخصيات تحيى وتتحرك وتنطق هي نفسها على الورق، لست أنا التي أنطق من حنجرتها وإنما أحاول قدر الإمكان أن أتركها تكوّن نفسها، وإذا بها أحياناً ترتد على الفكرة الأصلية التي جئت بها أصلاً لأجلها، فتحورها أو تنسفها وتناقضها، وهكذا فإنني لا أستطيع أبداً التنبؤ بما ستكون عليه خاتمة القصة".

في كثير من قصص السمان نجد أن الحلم يتناغم مع الواقع الافتراضي، أو لنقل مع أحلام اليقظة، لنصل في النهاية إلى نص قصصي متميز.

وكما تعتقد غادة أن جوهر لقاء الحلم والجنون في أن كليهما تعبير عن الصدق المطلق. ولذا فإن الأحلام تلعب دوراً مهماً في أعمالي، الحلم عندي امتداد طبيعي لرقعة العطاء، إنه موجود ومقبول لكن مدى قبوله خاضع عندي لسلطان العقل، الذي ينظم في النهاية كل شيء. والحلم يحاكي الجنون، ولا أعتقد أن هنالك عملاً عبقرياً دون لمسة جنون. 

الإيروسية تعني في أدب غادة السمان، الحب بمظهره الجنسي، الذي يبحث عن هزيمة للموت، نجد ذلك في قصة (أرملة الفرح) من مجموعة (رحيل المرافئ القديمة)، تصف لنا الخبرة الجنسية بأصدق معانيها، وذلك بمعاينة البطلة لهذه الخبرة بين السائق (أبو عبدو) وخدامتها (تفاحة)، حيث تقول:(شاهدت شبحين غارقين في عناق مذهل، اقتربت منهما بكل هدوء وصمت، كان ضوء القمر يشتعل فوق ذرا الأشجار وترتمي حزم منه فوق الحشائش أمام كوخ "أبو عبدو" وتضيء الشعر الطويل المفروش على الأرض لامرأة ترتعش كلهب شمعة، بينما ارتمى رجل فوقها بجسده الهائل كشجرة مباركة، وصارا مثل موجتين اتحدتا، يؤديان رقصة شفافة كالأساطير، مجنونة كالألم. ظللت واقفة أتأملهما بذهول، صارا موجة واحدة تجيء وتروح بشراسة مثل صرخة متوحدة تفتح في صخر الواقع نفقاً إلى عوالم أزلية تلتقي فيها الحقيقة والحلم، ولم يشعرا بان غادة السمان تتساءل في قصة «لعنة اللحم الأسمر» من مجموعتها «لا بحر في بيروت»، فيما إذا كان هنالك رجل يستطيع أن يفهم المرأة عن طريق مشاعرها وأفكارها، وليس فقط عن طريق العلاقة الجسدية، والأمثلة كثيرة نجدها في قصة "الساعتان والغراب" كما في قصة (أرملة الفرح).

شيّدت غادة السمان لعالمها الروائي، برجاً مدججاً بالمناعة والخصوصية، وتمكنت من أن تفرض أعمالها على الغرب، الذين بادروا إلى ترجمة أعمالها إلى 17 لغة حيَّة. وصدرت لها روايات عدة، منها "بيروت75، كوابيس بيروت، الرواية المستحيلة فسيفساء دمشقية، سهرة تنكرية للموتى، ليلة المليار".

نجحت غادة في القبض، على لحظة هاربة تحولت للحظات وشيدت منها عوالم روائية. كذلك اعتمدت الكاتبة في روايتها (بيروت 75) أسلوب تيار التداعي الحر، وقد وسّعت هذا الأسلوب في روايتها (كوابيس بيروت)، فعالم بيروت المشبع بالجنون والدمار، والمشرف على الانهيار انهار في هذه الرواية وتحققت النبوءة، كما أن الأحداث الدامية التي عصفت بهذا العالم هي التي اختارت أسلوب الكوابيس للتعبير عن سورياليتها.

والرواية مؤلفة من مجموعة من الكوابيس وتبلغ 197 كابوساً، وحلماً واحداً اختتمت به الرواية، ويبدو أن هذا الحلم (انفتاح لا متناه للاحتمالات كافة) يبدو لقارئ هذه الرواية أنه أمام مذكّرات يومية لكاتبة مناضلة أشهرت قلمها سلاحاً في وجه هذا العالم المتناقض المشبع بشاعة ومرارة، وإذ به أمام كوابيس تصلح لأن تكون قصصاً قصيرة ولوحات تصويرية، تنوعت وتعددت فيها الشخصيات، واختلفت وتباينت الموضوعات والمحور واحد هو الحرب. قامت الكاتبة بتسجيل فني وموضوعي لجنون الحرب الأهلية في بيروت، (ما يجري في هذه المدينة له طعم الجنون، لهذا القتال لذعة السادية).

وقد فرضت عليها هذه الحرب الإقامة الجبرية في بيتها مع أخيها، فالحي الذي تسكنه تحول إلى جبهة قتال مستعرة، والمعارك في أوجها في الخارج، والمسلحون والقناصون يحتلون الأسطح لاصطياد البشر واصطياد كل ما يمت للحياة بصلة.

وبعد أن تنتقل بنا من كابوس قاس ومخيف إلى آخر، نجدها وحيدة خائفة منزوية في دهليز بيتها، الذي تتوسطه مكتبتها الثورية الضخمة، والتي اغتالتها طلقات قناص محكمة.

وبعد كوابيس عدة ترصد فيها عالم الأموات والجثث والخطف، وبعد أن تفقد الأمل بالهرب والخلاص، وبعد حصار دام أكثر من عشرة أيام، تأتي مصفحة وتنقلها من هذا الجحيم، لتقف وحيدة على الشاطئ الآخر من بحر الجنون هذا، ولا تملك سوى حقيبة برتقالية تحتوي على مخطوطة كوابيس بيروت وبعض أشياء حبيبها يوسف، ولا تعرف إلى أين تذهب ومن أين تبدأ رحلتها الجديدة.

أما في الشعر فقد ابتكرت السمان طقساً خاصاً تحت ما يسمى قصيدة النثر، ونشرت أكثر من عمل شعري، منها: "الحب، عاشقة في محبرة، أعلنت عليك الحب".