عفاف مطر
في 1992 أي بعد أربع سنوات من وفاة رسام الكاركتير الفلسطيني ناجي العلي ظهر في سينمات القاهرة، فلم يحكي سيرته الشخصية وحياته المهنية والسياسية التي انتهت بالاغتيال، الفيلم الذي من بطولة نور الشريف وتأليف بشير الديك واخراج عاطف الطيب واجه حملة شرسة من الإعلام المصري وطلبات بوقف عرضه ومنع تداوله ليس هذا فحسب، بل اتهمت صناعه بالخيانة.
كتابة الفيلم كانت هاجس يطارد بشير الديك، لأنه يؤمن بأن القضية الفلسطينية هي أخطر قضية ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في العالم كله.
حنظلة أشهر كاركتير رسمه ناجي العلي وبطل أغلب رسوماته لم يتوان عن نقد السلطة الفلسطينية فحسب، بل انتقد الفصائل الفلسطينية كلها.
ويعزي بعض النقاد هذا الهجوم الى خطأ التوقيت رغم مرور ما يقارب العقدين من الزمن على اتفاقية السلام (كامب ديفيد) التي عقدها السادات مع اسرائيل.
وكما كانت حياة ناجي العلي صعبة وشاقة، كذلك كان انتاج الفيلم صعباً وشاقاً.
كانت لبنان خارجة لتوها من الحرب الأهلية، لهذا استفاد صناع الفيلم من بيروت كموقع تصوير لدرجة أنهم استعملوا الذخيرة الحية في تنفيذ بعض المشاهد.
اسم ووزن وقيمة ناجي العلي وقصة اغتياله اضافة إلى اسم نور الشريف الذي كان الألمع حينها، كذلك عاطف الطيب وبشير الديك والتصوير في بيروت المهدمة كلها عوامل اجتذبت الصحافة والإعلام للكتابة عن هذه التجربة، حتى أن سعد وهبة اقترح وصرح أن يكون فيلم افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي، وعلى أثر هذا التصريح أرسل ياسر عرفات رسالة إلى حسني مبارك يطلب منه ايقاف عرض الفيلم.
في البداية توقع الجميع وجبة نقدية سينمائية دسمة، لكن بعد عرض الفيلم تفاجأ صنّاعه بهجوم من الصحف المصرية واتهامهم بالخيانة وانتقدو القائمين على السينما في تبذير الجهود والطاقات، لأجل شخصٍ "تافه" مثل ناجي العلي، وأن الفيلم تافه وساذج وأحداثه ملقفة، ووصلت درجة الهجوم على الفيلم إلى وصفه أنه ضد مصر، وتمت اعادة نشر رسومات ناجي العلي التي كان ينتقد بها اتفاقية السلام بين السادات واسرائيل كمبرر لهذا الهجوم العنيف، واستبعد الفيلم من المشاركة والمنافسة في مهرجان القاهرة الدولي السينمائي.
يقول بشير الديك إنه أنكر اتهام ناجي العلي بكرهه لمصر، وأوضح أن العلي كان يكره وضد اتفاقية كامب ديفيد وهو نفسه (أي بشير الديك) يكره، وضد هذه الاتفاقية والملايين من المصريين ضدها أيضاً.
يعزي بعض النقاد أن هناك أسبابا أخرى تقف وراء الهجوم على هذا الفيلم، منها أن لا نور الشريف ولا مجلة فن وهما من منتجي الفيلم كانا قادرين على هذا الانتاج الضخم، وأن التمويل الحقيقي كان يأتي من الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، الذي كان في تلك الفترة يمول كل ما من شأنه ضد مصر بسبب الخلافات القائمة بين البلدين آنذاك، لكن وليد الحسيني المشرف السياسي على انتاج الفيلم ينفي هذه المعلومة نفياً تاماً.
وجود كلمة (المشرف السياسي) على تتر الفيلم كان بحد ذاته مثلباً على صنّاعه، فمعنى أن هناك مشرفا سياسيا فإن الفيلم موجه وليس محايداً، بينما يبرر وليد الحسيني وجود هذا الوصف على التتر بأن الفيلم كانت فيه مشاهد واضحة وصريحة على لسان ناجي العلي (نور الشريف)، يخبر بها من حوله عن استلامه رسائل تهديد وصلته من حركة فتح ومنها الأحداث التي حصلت معه في الكويت.
والفنان نور الشريف طلب منه حذف هذه الأجزاء من المشاهد، لكن الحسيني رفض الحذف وأخبره بأنه سيتحمل المسؤلية الكاملة عن هذه التصريحات، وهذا هو سبب وجود كلمة ووصف المشرف السياسي.
ومن ضمن الانتقادات التي تعرض لها الفيلم أنه ركز على النكسة في 1967، ولم يتعرض لحرب وانتصار اكتوبر في 1973، واعتبروه تجاهلاً مقصوداً للإساءة إلى مصر، بينما برر بشير الديك كاتب الفيلم ذلك بأن الفيلم مهتم بمرحلة الانهيار العربي بعد 1948، وليس بانتصار العرب الوحيد على اسرائيل.
انتقاد آخر ومهم وجه إلى الفنان محمود الجندي، وكان يمثل الشخصية المصرية الوحيدة في الفيلم، وكان طوال الفيلم يظهر وهو مخمور ويشرب الكحول، بينما دافع الجندي عن الشخصية التي مثلها بأن هذا الرجل المصري ورغم سكره كان الوحيد الذي يمتلك البصيرة وبعد النظر ويعي ما سيحصل، لهذا فهو يدفن أحزانه أو يحاول نسيانها بتناول الخمر طوال الوقت لمرارة الحقيقة التي كان يدركها، لهذا نراه يظهر في أكثر من مشهد وهو يسأل ناجي العلي "هي الجيوش العربية مش هتيجي؟".
وفي هذا الشأن يقول بشير الديك إن الشخصية التي قام بأدائها محمود الجندي هي الشخصية العميقة في الفيلم رغم قلة مشاهدها ولسان حاله يقول ويصرخ "أين الشعارات والأغاني والهتفات لماذا لم يأتِ العرب حتى الآن؟" وبالتالي فإن شخصية محمود الجندي رمز الشخصية المصرية وضمير العرب في الفيلم. قاطع الجمهور المصري أفلام نور الشريف وعلق المشانق له ولبشير الديك وعاطف الطيب وفكر نور الشريف للمرة الأولى في حياته في الهجرة من مصر، لاسيّما بعد مطالبات بنزع الجنسية والجواز المصري منه ومن صنّاع الفلم، وبالفعل صرّح نور الشريف بنيته على الهجرة.
عاطف الطيب هذا المخرج العظيم رائد الواقعية وصل به الحال أن والده سأله في إحدى المرات "هل فعلاً خنت الوطن يا عاطف؟" وكانت ضربة مؤلمة للطيب. كل هذا الهجوم وحملات التخوين والعمالة تغيرت بمرور الوقت إلى الدفاع عن الفيلم نتيجة تغير السياسات ومزاج الرأي العام. رحل كل من وقف ضد الفيلم وهم الأغلبية، ومن وقف مع الفيلم وهم ندرة، وبقي فلم ناجي العلي قيمة فنية ووثيقة تاريخية مهمة. يخطر ببالي سؤال مهم ماذا لو أن الفيلم انتج الآن في ظل هذه الظروف؟
وكيف ستكون ردة الفعل؟