وارد بدر السالم
مرةً قال الراحل جبرا إبراهيم جبرا: “غالباً ما رأيت الناس يندهشون أو يستغربون حين يجدونني أرسم”، بوصفه تكرّس في القراءة روائياً وشاعراً وناقداً تشكيلياً ومترجماً شكسبيرياً، أي أنه عُرف مقروءاً أكثر مما عُرف بَصَرياً. والتباس الذائقة عند الجمهور أمرٌ طبيعي، فالراحل الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا مثقف متعدد الإجراءات الفنية والأدبية، فهو روائي ومترجم وناقد فني وشاعر ورسام.
وهذه التعددية الإبداعية تشير إلى إمكانية فردية في التنقل بين هذه الأجناس التي لا تتشابه، ففي الوقت الذي عُرف فيه مترجماً لمسرحيات شكسبير، عُرف روائياً أيضاً في “صيادون في شارع ضيق” و “السفينة” و” البحث عن وليد مسعود”، وعرف شاعراً في “ تموز في المدينة” و “المدار المغلق” و”لوعة الشمس”، كما عُرف فناناً عبر لوحاته واشتغالاته النقدية الفنية المتميزة، بعد أن أسس مع الراحل جواد سليم “جماعة بغداد للفن الحديث-1951”، وتوليه رئاسة تحرير مجلة “ فنون عربية 1980 - 1983”، وتبوئه منصب رئيس “رابطة نقاد الفن في العراق-1982 “، وكل هذه المناصب الشرفية قدمته كفنان لعقدين من الزمن، من الخمسينيات حتى السبعينيات من القرن الماضي. وبالتالي فالجمهور المتابع استقرّ على أن يكون جبرا سارداً قبل أن يكون فناناً يتعامل مع اللون وصِلته قديمة به.
هذه المواهب المتفرقة في بياناته الشخصية تشير إلى تعددية ثقافية ومرجعيات تزامن تلقيها مع ثورات وبيانات خمسينية فنية وأدبية على الصعيد العالمي، ولأنه كان يحترف اللغة الإنكليزية، فقد تواصل مع المنطق المتغير في ثقافة الآخر وحداثته بوعي مبكر، لاسيما في الرواية، وبقيت اللحظة الفنية عنده حاضرة بتأثيرات وافدة من الغرب، لكنه لم يغادر الذاكرة الفلسطينية القديمة وشعبيتها وفولكلورها، بالرغم من التأثيرات الواقعية التي هيمنت عليه في الخمسينيات الماضية، وفهمه الناضج للطوفان في فضاء اللوحة وتقنينها واستنهاض قيمة اللون المعبّر عن تآلفه مع الفضاء الفلسطيني. ولأن الراحل جبرا ابن المكان، حتى لو غادره منذ 1948 إلا أن ذاكرته القديمة، ذاكرة المكان والنشأة والبئر الأولى كما يسميها، ظلت طريّة في استحضار المكان وفضاءاته وما فيه من حمولات معنوية ورمزية، ينتمي إليه واقعياً وفنياً في جدلية اللقاء مع اللوحة، وبالتالي فإنّ التجسدات لديه تظهر مرة في الرواية وأخرى في اللوحة، وإن كانت في الرواية أكثر وصفاً وعمقاً، غير أن لوحاته رسمت روح المكان والقرية والحارة، والشعبيات الفلسطينية الأكثر تماسّاً مع الحالة النفسية التي ما برحت تراوده وهو المهاجر الفلسطيني القديم. لذلك فإن هذا التوزع في الممارسات الأدبية والفنية، يشبه الفائض المعرفي لديه، لا تستوعبه رواية ولا لوحة ولا قصيدة، فنراه في وجوده المتقدم على أبناء جيله، ينطلق بقوة سردية لإنشاء رواية عن الواقع الفلسطيني، فيها ميثيولوجيا الوجود الفلسطيني وأسطوريته، لكنه مستلب الحرية والهوية والمكان. أو يكوّن لوحة لونية بوجوه نسائية، تحكي الكثير من المأساة، لكنها بالضرورة حكايات يمكن استنطاقها من طبيعة اللوحة وقتامتها، لنعرف أن وراءها قصصاً لم تغادر الذاكرة ولا المكان ولا الزاوية الشعبية بمقتضياتها الجمالية. ونحسب في هذا أن تكثيف اللوحة عند الراحل جبرا لا يمكن أن يكون في الشخصيات التي تظهر في رسوماته، إنما في الخلفيات التي يُظهرها اللون الغامق والمعتم تقريباً، لتنكشف شخصياته النسائية بالألوان القاحلة، القريبة من لون الأرض ومرارة الفقدان، فالمرأة دائماً رمز للأنوثة والخصوبة والولادة.
منذ الخمسينيات كان جبرا يمارس الرسم، وهو زمن قياسي بالنسبة له، ولكنه زمن تدريبي في الأحوال كلها، وجاءت ممارساته في الكتابة المتنوعة لاحقة بالرسم، فالتجربة الأدبية الطويلة التي كان عليها، منحته الكثير من الرؤى الفادحة التي كانت فيها فلسطين كأرض محتلة، ولعل الرسم العفوي الأولي كان استجابة لظروف النكبة ومأساة الفراق مع الأرض والمكان والذاكرة، لهذا لو تأملنا رسوماته الأولى سنجدها تكثّف الوجوه الفلسطينية وتُبرزها في واجهة اللوحة، كما لو أنها خارجة من عمق اللون المعتم، لتؤكد حضورها ووجودها، بمؤثرات كانت سائدة مع الثورة التشكيلية العالمية في تلك الفترات التي شهد فيها الفن نهوضاً واضحاً بعد الحرب العالمية الثانية، وهو أمر طبيعي لفنان يمارس هوايته بالأثر النفسي الذي كان يواجهه في الهجرة الإجبارية، والتخلي عن شروط المواطنة، والهوية الشخصية والوطنية. ونرى في مجمل ما أنتجه من رسومات تلك الإشراقة الملتبسة في خلفيات اللوحة من وجوه ترى ما لا نراه على وجه التحديد، تذكّرنا بالرسوم التي لا تخضع لأية متطلبات فنية، من تلك التي كان فيها الفنان يمارس التعبير عن موهبته بقوة من دون الوقوف عند تقنيات محددة، إذ لم تكن رسوم التاريخ القديم تخضع إلى أية تقنية فنية، وهذا يُحيلنا إلى مبتدأ التصور في هذه الإطلالة عن المؤثرات الغربية (التأثرية مثلاً) التي كان الراحل جبرا يتابعها، فهو يمتلك اللغة الأخرى ببلاغة كما نعرف. مثلما يمتلك الوعي في القراءة والمشاهدة البَصَرية اللماحة. ليترك الانطباع أنه فنان انطباعي يُقيم للجمال ذائقة شخصية في معيارية المفاضلة الفنية والمدرسة التي يُظهرها في لوحاته.
استدراك:
• ولد جبرا إبراهيم جبرا (1920 - 1994) في بيت لحم في عهد الانتداب البريطاني، واستقر في العراق بعد حرب 1948، وعمل في التدريس في جامعة بغداد. بعد أن درس في القدس وإنجلترا وأمريكا.
• في عام 1952 حصل على زمالة مؤسسة روكفلر في العلوم الإنسانية لدراسة الأدب الإنجليزي في جامعة هارفارد.
• نال عدداً من الجوائز العربية والعالمية أبرزها: جائزة “تارغا يوروبا” للثقافة من إيطاليا- 1983 وجائزة الآداب والفنون من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي- 1987 وجائزة ثورنتون وايلدر للترجمة من جامعة كولومبيا الأميركية – 1991 ووسام القدس للثقافة والفنون والآداب من فلسطين- 1990 .