مهرجان {أنا عراقي.. أنا أقرأ} في مواجهة الجهل

منصة 2023/12/28
...

 أ.د. باسم الأعسم


 تعد القراءة من أسمى الأفعال التنويريَّة، الدالة على رقي الإنسان والمجتمعات، بوصفها الفعل المجابه للجهل الذي "هو علة البلاء" كما يقول: الخطيب الراحل أحمد الوائلي رحمه الله.

إنَّ تحضر المجتمعات يقترن بالوعي والثقافة، اللذين أساسهما القراءة، إذ لا تقدم لشعب، إذا لم يكن واعياً، تقوده الطلائع المثقفة، صوب مرافئ الحرية والعمل، وتسيّره المؤسسات الداعية لحقوق الإنسان. 

ولكي تعطي القراءة ثمارها، فلا مناص من أن تلازم الإنسان كظله منذ الصغر، لكي تستحيل إلى عادة أو سلوك يومي متحضر، إذ كلما ازداد عدد القراء، أي المثقفين في المجتمع، توالت الانقلابات النوعية في بنية الوعي لدى الأفراد، والتي تعمل على إزاحة تراكمات التخلف والجهل والفساد واكتساب الناس الحصانة والمناعة، وهما من ركائز التقدم والبناء والازاحة على الضد من تراكم طبقات الغباء والجهل، فالقراءة تختزل العلم والمعرفة والثقافة لصالح الإنسان، وقضاياه المصيريَّة.

ولا يمكن للمجتمعات أن تنهض من كبواتها وتواكب التطور المتلاحق، إذا لم تكن شعوبها قارئة، نهمة تستوعب ماضيها، وتهضم حاضرها لكي تتطلع صوب مستقبلها، بأرواح منفتحة وعقول متنورة، وعيون مبصرة، مثلها كمثل الشعوب الناهضة التي خلعت عن أرديتها الأتربة العالقة بها، من جراء تقديسها الماضي، وتعظيمها الخرافات، وتأليهها للسلاطين والطغاة، فسارت منعمة في دروب العلم والمعرفة عبر قراءة الماضي بعيون الحاضر المتحضر، ومن ثم الانفتاح على الآخر من دون عقد أو اشتراطات مسبقة سوى مد جسور التلاقح الثقافي مع الآخر.

 إنَّ الأجيال الحالية عازفة عن القراءة على الرغم من توفر المزيد من وسائل القراءة الالكترونية التي تختصر الزمكان لخدمة الإنسان، لكن أغلبية الاجيال كالطلبة عن القراءة مبتعدون، حتى في ما يتعلق الامر بدراستهم، ولذلك انخفضت مستويات القراءة إلى حد مخيف، وينذر بكارثة مستقبليّة على صعيد الوعي والثقافة والمعرفة، فالمكتبات لا يؤمها إلا القليل، والصحف لا تقرأ اطلاقاً، إذ لم نجد طالباً واحداً من بين آلاف الطلبة يتأبط كتاباً أو مجلة ثقافيّة، على النقيض من الأجيال السابقة التي كانت تقرأ بشغف هائل، ولم تكن القراءة مقتصرة على رجالات الأدب والفن واساتذة الجامعات، بل أن الطلبة وإن لم يكن جميعهم، لكن أغلبهم يقرؤون، والمكتبات كانت تعج بالقرّاء، وعلى الرغم من الكوابح الرهيبة، كالحروب والحصارات، لكن الأجيال كانت تقرأ، وكان الكتاب الصديق الذي يجود علينا بجرعات منيعة من الثقافة والفن والأدب، حتى اصبحنا بفضله متفردين، وهذه واحدة من فضائل القراءة. إنّها تضفي على الاشخاص سمات الاجتهاد، والتفرّد، بل والتمرّد على ما يحط من شأن الفرد لتحقيق أسمى مراتب الوعي والخصوصية الدالة على الذات المائزة بنحو مبين، إذ إن القراءة كفيلة ببناء عقول تنويرية وحجاجية تعجل في إعداد أجيال ذات عقول تنويريّة، ترنو للمستقبل بآفاق رؤيوية رحبة، وحالمة ذات مديات فسيحة، يعول على ممكناتها الخلاقة في بناء مستقبلها الوضاء.

 إن ما يؤسف عليه، هذا العزوف المروع عن القراءة التي هي زاد العقول، إذ إن الأجيال الحاضرة، لم تعد تقيم وزناً للعلم والثقافة والمعرفة، التي مصدرها الكتب، ووسيلتها القراءة، على الرغم من اجتياح عالمنا المعاصر، وسائل الاتصال الذي يفترض أن تعجل في تدعيم القراءة، وتثوير الوعي، وتفعيل الثقافة، لكن الدوافع خاملة، والمؤسسات التربوية والتعليميّة ليست فاعلة. وأما البنى الثقافية فمحدودة الفعل والأثر، مما انعكس ذلك بنحو سلبي على الحراك الثقافي، والفعل القرائي باستثناء بعض مؤسسات المجتمع المدني التي تشيع القراءة. وتقيم المهرجانات التي تحث الأجيال المختلفة على القراءة، مثلما هي مؤسسة (أنا عراقي.. أنا أقرأ)، وهذا ليس كافياً أزاء فداحة الجهل المستفحل، لدى شرائح عدة، وفي مقدمة ذلك الطلبة الذين يعشقون كل شيء إلا القراءة، فهم عنها غافلون، لا يدركون جدواها في تنمية مدركاتهم وبناء أذواقهم وتطوير ذواتهم، لكن الإرادة غائبة والتصميم المبدئي في خبر كان، وإلا فإن فضل القراءة على الإنسان والمجتمعات كبير لا يقدر 

بثمن.

 لقد أدركت الإمارات العربيّة ثمن القراءة، فاستحدثت برنامج (تحدي القراءة) للتغيير نحو الأفضل على الصعد كافة، شاركت فيه عشرات الدول وملايين الطلبة، لإحداث نهضة قرائيَّة مائزة انطلاقاً من المبدأ الذي أشاعه محمد بن راشد آل مكتوم (إن أول كتاب يقرؤه الطلاب، هو أول سطر في مستقبلهم) إنّها بحق سبق معرفي جميل وجليل.