أدب الفتيان والنقد الخجول

ثقافة 2023/12/31
...

 إيمان المحمداوي

تعد رواية الفتيان من الروايات التي تمتلك خصوصية عالية في التأليف والتلقي، إذ تختص بمرحلة عمرية محددة, ما بعد الطفولة وقبل البلوغ، أي ما بين (12 - 18 عاما) وهي مرحلة متداخلة بين مرحلتي المراهقة وسن الرشد؛ ولهذا نجد فيها خيطًا رفيعا يربط قرّاء من مرحلة الطفولة المتأخرة بقرّاء من مرحلة الرشد، عندما يجدون فيها مشابها لما عاشوه أو افتقدوه في طفولتهم, وهي مرحلة حرجة تحتاج إلى كثير من التوجيه والعناية لما يمر به المراهق من تقلبات جسدية ونفسية.
  ولما له من أهمية في بناء شخصية المراهق وبناء أفكاره، وقد احتفت السردية العالمية بهذا النوع من السرد وصنعت له مكانة خاصة، ليس على المستوى القرائي فحسب، وإنما على مستوى المرئي أيضا، وأقصد عالم السينما، إذ حظيت - على سبيل المثال لا الحصر- أفلام شارلوك هولمز وسيد الخواتم لجون تولكين وغيرها من الأفلام، التي اقتبست من روايات الفتيان العالمية التي تستحق الاهتمام الخاص بها نتاجًا ونقدًا.
وتبعًا للتصنيف البيولوجي، فقد سميّت هذه الرواية بـ(رواية اليافعين) أو (رواية الناشئة) أو (رواية المراهقين) أو (رواية كبار الأطفال) أو (رواية صغار الراشدين). وهذه كلها توصيفات لما استقر عليه هذا النوع من الروايات، ألا وهو (رواية الفتيان). وعند التدقيق في التسميات السابقة يتضح لنا المرحلة الانتقالية لهذا العمر الممتد من 12- 18 عاما.
 إن الكتابة في أدب الفتيان، ولا سيما الرواية بوصفها نوعًا أدبيًا مستقلًا تحتاج إلى جانب اشتراطاتها الإبداعية أسوة ببقية الأنواع الأدبية, أخيلة تتفق وقدرات الفتيان، وهذا يزيد من مغامراتها التعبيرية، كما تحتاج إلى إحساسات تتوافق مع الجوانب التربوية والتثقيفية للفتيان؛ مما يجعل الوصول إلى الإمتاع والالتزام بتلك الضوابط في الوقت نفسه أمرًا شاقًا يحتاج إلى تمكين لا يتوفر عند كل كاتب، فضلا عن ضرورة عامل التشويق الذي يحتاجه الفتى أكثر من غيره. فهي – أي رواية الفتيان-  تمتاز بمستوى معين في الأسلوب الذي يراعي قدرة الفتيان على القراءة والفهم والاستيعاب والتأثر والاستجابة، ومستوى معين من طبيعة اللغة ومستوياتها في مفرداتها وتعبيراتها وتشكيل جملها، فضلا عن وظيفتها التصويرية، وكيفية تجسيد الإحساسات تبعًا لطبيعتهم النفسية والعقلية. وقد أجمع النقاد على أن (الموهبة) وحدها لا تكفي عند الكتابة في رواية الفتيان، فلا بد أن تتعالق معها (الخبرة) و (الدربة) و (الثقافة)، لكي يستطيع المؤلف التخلص من مزالق الكتابة للأطفال أو للكبار.
 لقد توزعت رواية الفتيان بدون أدنى شكّ بين عدة أنواع من الروايات، منها، رواية المغامرات الواقعية (البطولة)، ورواية الخيال العلمي، ورواية التاريخ، ورواية السيرة.. وغيرها، وهذا ما يدعو إلى كتابة غير عادية مقارنة بما يكتب من روايات للكبار. ونحن هنا لسنا بصدد الكتابة عن خصائص رواية الفتيان الفنية وتقنياتها، بقدر ما تحتاج هذه المقاربة من توضيح مبسط لهذا النوع من الروايات حتى وإن لم تخضع لموجه قرائي (رواية للفتيان) كما في رواية (كشاتنكا) للروسي انطوان تشيخوف، أو روايتي (توم سوير) و (مغامرات هكلبري) للأمريكي مارك توين، وغيرهم.
أما عن الجانب النقدي، فلم يحظ أدب الفتيان من لدن النقاد والدارسين في العراق والوطن العربي كما حظي أدب الأطفال بالعناية الكبيرة، تماشيًا مع الكم الهائل من النتاج الإبداعي في هذا النوع من الأدب، إذ شكّل الالتفات إلى أدب الفتيان لما له من خصوصية واستقلال فنيين، نظرة خجولة ومحدودة، ولم تنل رواية الفتيان دراسات مستقلة إلا على يد قليل من النقاد، على الرغم من صدور مئات من روايات الفتيان، وتخصيص جوائز عربية كبيرة لها، من مثل جائزة كتارا، وجائزة الطيب صالح، وجائزة الملتقى.. وغيرها. نذكر من هؤلاء النقاد الدكتور نجم عبدالله كاظم في كتابه (رواية الفتيان/ خصائص الفن والموضوعات)  وهو من الكتب المتفردة التي وثقت لرواية الفتيان بشكل تحليلي وتقويمي لخصائصها الفنية والموضوعية. والدكتورة حلا حمزة كاظم في كتابها (روايات الفتيان عند محمد شمسي/ دراسة نقدية) وهو في الأساس رسالة ماجستير، أشرف عليها الدكتور نجم عبدالله كاظم، ونوقشت عام 2014 في جامعة بغداد. ولكن ما يثير استغرابنا عند رجوعنا إلى قائمة المصادر والمراجع في كلا الكتابين، هو خلو تلك القائمة من الكتب المتخصصة في رواية الفتيان، وكل ما وجدنا من الشواهد النقدية التي تعزز أقوالهما لا يتعدى الكتابة للأطفال، إذ أفاد الدكتور نجم عبدالله كاظم من (17) كتابًا، وعددٍ من الدراسات المنشورة في الدوريات، وهذه الكتب والدراسات تتعلق جميعها بالكتابة للأطفال، فضلا عن بعض الكتب التي تناولت الخيال العلمي ومرحلة المراهقة. وكذلك أفادت الدكتورة حلا حمزة كاظم من (18) كتابًا في كتابة الأطفال، وأفادت من كتاب واحد يخص رواية الفتيان، وهو كتاب مشرفها (رواية الفتيان/ خصائص الفن والموضوعات) للدكتور نجم عبدالله كاظم.
ما أردت أن أقوله من ذكر هذه الإحصائية النقديةـ التي توزّعت بين كتابين يتناولان (رواية الفتيان)، كانت هناك ضرورة كبيرة في إسقاط بعض ميزات الكتابة للأطفال على الكتابة للفتيان، أو تحويرها، أو الإفادة منها، على الرغم من أن لكل كتابة اشتراطاتٍ فنيِّة تختلف عن الأخرى، وتبرير ذلك عدم وجود كتابات نقدية تخص الفتيان تحديدًا إلا بشكل خجول أولا، وكثير من النقاد حين كتبوا دراساتهم النقدية، سواء أكانت الكتابات عن الأطفال أم الفتيان، اتفقوا على أن هناك ترابطيَّة قوية بين أدب الفتيان وأدب الأطفال، وذلك لانعدام الحدود الفاصلة بينهما، وفي هذا الشأن يقول سيرجي ميخالكوف: (لو أخذنا كتيّبا للصغار، وآخر للراشدين سنرى حتما حدودًا كبيرة، ولكن هذه الحدود ليست متضادة، أو ليس تضادها كبيرا، وإني على ثقة أن أدب الأطفال الحالي يدخل في الأدب العام، أو أدب الراشد تدريجيا كما يدخل النهار في المساء، وعلى الرغم من ذلك نرى أدب الأطفال يملك سماته الخاصة، التي تزداد كلما قلّ عمر القارئ). ويمكننا أن نبني من هذا القول قولا آخر وهو: إنّ هذا التداخل الحاصل بين أدب الأطفال وأدب الراشدين هو ما يمكننا نخطّ له مسارا آخر وهو (أدب الفتيان).
فما آن الأوان لكي يتجه النقاد أو الأكاديميون إلى دراسة هذا النوع من الروايات بكثافة وجرأة تبعدهم عن الخجل بعدما أصدر الروائيون والروائيات مئات من روايات الفتيان، التي يمكنها أن تكون نماذج لعشرات الدراسات. هذه دعوة صريحة للنقاد والأكاديميين الذين يقع على عاتقهم النهوض بدراسات رواية الفتيان، بعد أن أخذت تتزايد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، فضلا عن خصوصيتها في تمايزها عن روايات الكبار.