فلسفة فنّ اللامبالاة.. لعيشِ حياةٍ تخالفُ المألوف

منصة 2023/12/31
...

 أ.د. قاسم حسين صالح *

يدهشك هذا الكتاب بمفاجأتين، الأولى لأنه يتحدث بلغة سايكولوجيَّة فلسفيَّة جديدة وغريبة تخالف المألوف مع أن الكاتب ليس فيلسوفاً ولا عالم نفس. والثانية أن المؤلف شابٌ من مواليد العام 1984، بينما يتضمن الكتاب مفاهيمَ وأفكاراً عن الذات البشريَّة والآخر والحياة وكأنها لعالم نفسٍ وصل الى مرحلة التنظير بعد عمر طويل. ومع أن كتاب (فن اللامبالاة) هذا يعد من كتب التنمية البشريَّة فإن مؤلفه يصف كتب التنمية البشريَّة بأنها تبيع الوهم للناس،
باستثناء كتابه هذا الذي يصدمك (مثلما تصدمك صفعة تأتيك من أفضل صديق) بوصف ستيف كامب (لكنه يحرّك التفكير الى حد هائل ولا تقرأه إلا إذا كنت على استعداد لتنحية الأعذار كلها).

تعريفٌ موجز
والكتاب بوصف ديريك سايفررز يخالف كل كتابٍ آخر، موجز لكنه عميقٌ مدهش، وهو بوصف كير كوس كتابٌ كله أفكارٌ تخالف الحدس المعتاد.
وما يصدم علماء النفس العرب بشكلٍ خاصٍ هو قولهم إنَّ التفكير الإيجابي هو المفتاح الى حياة سعيدة ثريَّة، بينما يسخر مارك من هذه الإيجابيَّة ويقول: «فلنكن صادقين، السيئ سيئ وعلينا أنْ نتعايشَ معه، ولا نتهرب من الحقائق ولا نغلّفها بالسكّر، بل نقولها كما هي جرعة من الحقيقة الفجّة الصادقة المنعشة التي تنقصنا في هذا الزمان، والمثير للجدل فيه أنَّ الكتاب يتحدث عن أنَّ الإنسان لا يجب بالضرورة أنْ يكون إيجابياً طوال الوقت!».
وقول مانسون: «سيُعلمك الكتاب كيف تخسر من دون أنْ تُشكلَ الخسارة مصدر قلق عليك!».
والشاب مانسون (بكالوريوس من جامعة بوسطن)، هو واحدٌ من أشهر صناّع المحتوى على المدونات وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد تصدّر كتابه «فن اللامبالاة» قوائم المبيعات في العديد من دول العالم ومن بينها دولٌ عربيَّة، ونال بسببه شهرة كبيرة.
يتضمن الكتاب تسعة فصول تبدأ بفصل لا تحاول، وتنتهي بفصل.. وبعد ذلك تموت!. يقع في 270 صفحة بالترجمة العربيَّة لـ( الحارث النبهان) و269 صفحة باللغة الانكليزيَّة.

سايكولوجست.. بلغة جديدة
حين بدأت اقرأ (فن اللامبالاة) عادت بي الذاكرة الى ستينيات القرن الماضي يوم قرأت كتابين لسارتر (الغثيان، و فلسفة الوجود والعدم)، وكتاب الأديب البريطاني كولن ولسون (اللامنتمي) الذي عالج فيه موضوع نفسيَّة الإنسان غير المنتمي لحزب أو مبدأ أو عقيدة أو دين ويعيش عزلة وقلقاً واغتراباً.
وما أحدثته تلك الكتب أنَّها قصفت أفكاراً في رأسي كنت أعدُّها ثوابت أبديَّة، ووجهت لي تساؤلات محرجة: هل أنا أعرفُ نفسي حقاً؟ وهل أنا مثقفٌ فعلاً؟ وهل أنَّ الذين يرتادون مقهى البرازيليَّة بشارع الرشيد مثقفون، وأنَّهم يشكلون موجة جديدة في الثقافة العراقيَّة كما يدّعون؟
وما أحدثه (فن اللامبالاة) أنَّه قصفَ أفكاراً سايكولوجيَّة لدى أكاديميين بعلم النفس ما زالوا يعلمونها لطلبتهم بوصفها ثوابت، تأتي من شابٍ ليس متخصصاً بعلم النفس!.

التقدير العالي للذات
يقول مانسون: (في سنوات الستينيات صار (تطوير التقدير العالي للذات)، توجهاً واسع الانتشار في علم النفس. وقد توصلت الأبحاث الى أنَّ الأشخاص الذين يقيّمون أنفسهم عالياً يكونون عادة أصحاب أداءٍ أفضل ويسببون نسبة أقل من المشكلات. ثم نشأت قناعة لدى كثير من الباحثين وصانعي السياسات في ذلك الوقت مفادها أنَّ تحسّن تقدير الجمهور لنفسه يمكن أنْ يؤدي الى منافع اجتماعيَّة ملموسة: نسبة جريمة أقل، وأداء أكاديمي أفضل، ونسبة بطالة أقل، وعجز أقل في الموازنة العامة. ونتيجة ذلك بدأت ممارسات «تقدير الذات» اعتباراً من عقد السبعينيات ليست موضوعاً يتعلمه الأهل ويشدد عليه المعالجون النفسيون والسياسيون والمدّرسون فقط، بل صار جزءاً من السياسيَّة التعليميَّة أيضا). ( ص 63).
ويضيف: «بعد جيلٍ أظهرت البيانات أنَّنا لسنا استثنائيين كلنا، واتضح أنَّ مجرد إحساسك الجيد تجاه نفسك لا يعني أي شيء في حقيقة الأمر، وتبين أنَّ المشاق والفشل أمران مفيدان حقاً!، بل حتى أنَّهما ضروريان حتى يكبر الطفل فيصير شخصاً ناضجاً ناجحاً قوي العقل. واتضح أنَّ تعليم الناس أنْ يعتقدوا أنهم استثنائيون وأنْ يكون لديهم إحساسٌ جيدٌ تجاه أنفسهم بصرف النظر عن أي شيء، لا يمكن أبداً أنْ ينتجَ مجتمعاً مليئاً بأمثال بيل غيتس ومارت لوثر كينغ». (ص 64)
ويخلص الى القول: «إنَّ مشكلة حركة تقدير الذات هي أنَّها كانت تقيسها من خلال مدى إيجابيَّة إحساس الناس تجاه أنفسهم، لكنْ من شأن المقياس الحقيقي الدقيق لتقدير المرء لذاته أنْ يكون معتمداً على شعور الناس تجاه الجوانب السلبيَّة في أنفسهم». (ص 64).
وللتوضيح فإنَّ تقدير الذات يعني في أدبيات علم النفس: تقييم الفرد لنفسه وشعوره بالاحترام والقيمة والكفاءة وقناعاته بخصوص نفسه،وتوكيدها على أنَّ رؤية الفرد السلبيَّة لنفسه هي سبب فشله في الحياة، بينما رؤيته الإيجابيَّة لها تدفعه دائماً الى النجاح. وعنها تمَّ تأليف عددٍ من الكتب أشهرها كتاب «ناثانيل براندن» (The Psychology of Self Esteem).

تصنيف مارك للقيم
 بخلاف الفلاسفة وعلماء النفس الذين يصنفون القيم الى ستة أنواع وأكثر: سياسيَّة، اقتصاديَّة، اجتماعيَّة، أخلاقيَّة، ثقافيَّة، عائليَّة، إنسانيَّة، جماليَّة، ترفيهيَّة، فإنَّ مارك يصنفها الى نوعين: قيم جيدة يحدد مواصفاتها بثلاث: مؤسسة على الواقع، بناءّة اجتماعياً، وآنيَّة قابلة للضبط.
وقيم سيئة يحددها بثلاث أيضاً: خرافيَّة أو خياليَّة، هدامة اجتماعيا، وليست آليَّة ولا يمكن ضبطها.
ويضرب مثلاً بالصدق كقيمة جيدة، لأنَّه يمكن ضبطه والتحكم به، ولأنه يعكس الحقيقة، ومفيد للآخرين، بينما يضربُ مثلاً بالشعبيَّة والشهرة كقيمة سيئة.
ويصف القيم الجيدة بأنها صحيَّة كالصدق، التجديد، الدفاع عن النفس، الدفاع عن الآخرين، احترام الذات، حب المعرفة، الإحسان، التواضع، والإبداع.. بينما يضرب أمثلة عن القيم السيئة غير الصحيَّة بـ: الهيمنة من خلال العنف أو التلاعب، الرضا عن النفس طيلة الوقت، الحرص على احتلال مركز الاهتمام على الدوام، السعي الى إرضاء الجميع، والثراء من أجل الثراء.

بصلة إدراك الذات !
يقدم مارك وصفاً جميلاً للذات، بالبصلة! فيقول إنَّ إدراك الذات يشبه البصلة، فهو له طبقات كثيرة وإنَّك كلما قشرت هذه الطبقات واحدة بعد أخرى كلما كان من المحتمل أنْ تذرفَ الدموع في أوقاتٍ غير مناسبة. ويحدد الطبقة الأولى من بصلة إدراك الذات بفهم الفرد الأولي البسيط لمشاعره وانفعالاته، وأنَّ هنالك أشخاصاً كثيرين يفشلون حتى على هذا المستوى الأولي من إدراك الذات. (ص 95)
ويحدد الطبقة الثانية من بصلة إدراك الذات بقدرتنا على السؤال عن السبب الذي يجعلنا نحسّ هذه المشاعر والانفعالات بعينها، وتدفع كثيرين الى الذهاب لمعالج نفسي يشخّص لهم السبب الخفي فيصيرون قادرين على فعل شيء ما من أجل تغييره.
ويصل مارك الى المستوى الأكثر عمقاً في إدراك الذات فيصفه بأنَّه هو ما يسبب ذرف دموعٍ أكثر من أي مستوى آخر، يحدده بمستوى قيمنا الشخصيَّة والمعيار الذي يحكم فيه الفرد على نفسه ومن حوله، ويعترف بأنَّ الوصول لهذا المستوى صعبٌ الى حدٍ لا يصدّق!؛ لأنَّه يتعلقُ بتشخيص مشكلات هي التي تحدد جودة الحياة.

الألم جزءٌ من المسار
بعكس الفكرة الشائعة بأنَّ التعرض لأحداثٍ مؤلمة يشعرنا بالتعاسة والشكوى من الحياة، فإنَّ مارك يورد لنا ما يناقض هذه الفكرة بأدلَّة واقعيَّة، فيذكر أنَّه في خمسينيات القرن العشرين، أجرى عالم النفس البولندي دابروفسكي دراسة على أشخاصٍ ناجين من الحرب العالميَّة الثانية، وكيف تعايشوا مع التجارب الصادمه المؤذية التي مروا بها، حيث الوضع في بولندا كان مروعاً: هولوكوست وتعذيب سجناء، وقصف أحال مدناً بأسرها حطاماً، وحالات جوع جماعيَّة، واغتصاب..
راقب دابروفسكي الناجين ولاحظ شيئاً مفاجئاً أنَّه رأى نسبة غير قليلة منهم، جعلتهم معاناتهم للحرب أشخاصاً أفضل، وأكثر مسؤوليَّة، وأكثر سعادة في الحياة رغم شدتها وألمها.
وقد وصف كثيراً منهم بأنَّهم كانوا قبل الحرب أشخاصاً جاحدين تجاه من أحبوهم، ولم يقدرّوهم حق قدرهم، وكانوا كسالى تستهلكهم مشكلات تافهة، وكان لديهم شعورٌ بأنَّهم يستحقون كل ما كان يعطى لهم، وبأنَّ لا فضل لأحدٍ فيه. وأنَّهم صاروا بعد الحرب أكثر ثقة، وأكثر اعترافاً بفضل الغير، وصاروا أشخاصاً لا تنغصّهم توافه الحياة وصغائرها المزعجة.
وينتهي باستنتاج لعالم النفس دابروفسكي أنَّ الخوف والقلق والحزن ليست بالضرورة حالات عقليَّة غير مفيدة وغير مرغوبٍ فيها على الدوام، بل غالباً ما تمثل الألم الذي لا بُدَّ منه من أجل النمو النفسي الانفعالي، وليس إنكار ذلك الألم إلا إنكاراً لمقدراتنا نفسها، ومنها يخلص مارك الى القول بأنَّه «غالباً ما يجعلنا ألمنا أكثر قوة وأكثر مرونة وأكثر رسوخاً، وأنَّنا في حاجة الى نوعٍ من الأزمات الوجوديَّة تجعلنا ننظر بموضوعيَّة الى طريقة استخلاصنا مغزى حياتنا، وأنَّ علينا أنْ نتعلَّمَ (فن النحت في المشقات) ليمنحنا القدرة على تغيير مسارنا في الحياة». (195 ص).

وتبقى حقيقتان
الأولى: إنَّ كتاب مانسون (فن اللامبالاة) جاء حصيلة معايشته لأشخاصٍ متنوعين اجتماعياً بينهم أصدقاءٌ بسطاءٌ، وآخرون أصحاب شركات ورجال أعمال وفنانون وسيدات وبائعات هوى، وإنَّه قرأ الكثير مما كتب عن الحروب الكبيرة بما فيها الحربان العالميتان والحرب الأميركيَّة اليابانيَّة وضحايا القنابل النوويَّة، بطريقة مغايرة تماماً لما كتبه سياسيون وعلماء نفس.
الثانية: هناك علماء نفس سبقوا مارك بقصفهم أفكاراً ومفاهيم تعدُّ ثوابت وكتبوا بلغة أكثر رصانة وحظوا بشهرة مستحقة بينهم عالم النفس (لينج) الذي ألَّفَ في الستينيات كتابه (The Politics of Experience) انتقد فيه الأسرة والمؤسسات السياسيَّة، وبيع منه ملايين النسخ.
وعراقياً، أجرى كاتب هذا المقال دراسات ميدانيَّة على سجناء في سجن أبو غريب بينهم قتلة محكومون بالإعدام ولوطيون وزناة، ودراسة تعدُّ الأولى عراقياً وعربياً وعالمياً شملت 270 بغياً وسمسيرة، وأشرف على اطروحة دكتوراه شملت أكثر من 300 إرهابي من جنسيات مختلفة في سجون العراق، ودراسة في مستشفى الشماعيَّة شملت قتلة مصابين بالفصام (شيزوفرينيا)، وعايش سجناء سياسيين وعاديين، توصل فيها الى مفاهيم جديدة في علم النفس تضمنها كتابه (أمراض النفس والعقل - تنظير جديد في الأسباب والمعالجات) عدّته شبكة العلوم التربويَّة والنفسيَّة في تونس، أفضل مرجعٍ للصحة النفسيَّة في العالم العربي.

* مؤسس ورئيس الجمعيَّة
 النفسيَّة العراقيَّة