وحدة المكان في المسرح

ثقافة 2024/01/03
...

  د. علاء كريم

المكان هو الإطار المحدد لخصوصية اللحظة الدرامية المعالجة للحدث، الذي يتجسد في مساحة محددة، فضلا عن أنه المجال المادي الذي تتحرك فيه الذات، وتتصل بالعالم وبالآخرين، والمكان المسرحي يشير إلى مكان العرض المسرحي، أي: المساحة الفعلية التي تستخدم في العرض، مساحة خشبة المسرح التي يراها الجمهور، عكس المكان الدرامي الذي يرتبط بما يفرضه المؤلف من أمكنة داخل النص المكتوب، والتي ترتبط ارتباطاً مباشراً بمدى قدرة المتلقي على التخيل وفك شفرات العرض المسرحي.

يشكل المكان في المسرح عنصراً أساسياً من عناصر البناء الدرامي على مر العصور المختلفة، أو هو أحد أعمدة العرض المسرحي، وذلك بما يتضمنه من مناظر وديكورات، وخاصة مع التيارات والمذاهب المسرحية المتباينة والمتعددة التي ظهرت في بدايات القرن الماضي. فالمكان لم يعد مجرد خلفية جذابة لأحداث النص المسرحي، بل ينظر إليه اليوم على أنه عنصر شكلي، يمثل الإطار العام لمنظومة العرض المسرحي، والمتوافقة مع مكونات المكان وتفصيلاته، وبين الشخصيات وحركاتها، فأصبح تفاعل العناصر المكانية وتضادها يشكلان بعداً جمالياً من أبعاد البناء المسرحي في النص والإخراج وحتى الاداء.

أول من نادى بوحدة المكان هم الكلاسيكيون الجدد، ونسبوها إلى أرسطو، في حين أن أرسطو تكلم عن وحدة الزمان، ونسبتهم تلك لـ «أرسطو» هي مجرد استنتاجات، كون المسرح الإغريقي محددا بمكان خاص تميزه خشبة المسرح، ونجد أن من كان يرتاد المسرح في تلك الحقبة الزمنية، تشكلت لديه صورة متعلقة ذهنياً بصورة صوتية كما يقول أصحاب البنيوية.

يهدف المكان في المسرح إلى إظهار الجو العام للعرض المسرحي، كما يهدف إلى وضوح الهدف الدرامي الذي يسعى إليه المؤلف، ويحاول أن يجسده المخرج بمساعدة مصمم المناظر، فتشكيل المكان المسرحي يحتاج إلى توظيف العديد من عناصر العرض المسرحي، حتى تكتمل الرؤية وتكون في أكمل صورة، فبالتالي، تشكيل الفراغ على خشبة المسرح، لا يأتي من باب الصدفة أو التزيين، وإنما لإيجاد لغة تشكيلية ثرية توحي بدلالات جمالية توضح العديد من المعاني التي يطرحها العرض المسرحي.

كما أن أفعال الناس تتحقق في بعدين رئيسين هما الزمان والمكان، وهذا ما يجعل الكاتب المسرحي يركز عليهما، من أجل صنع بعدٍ ثالثٍ يرسم من خلاله الأحداث التي هي مسرح الحياة، وقد يتمثل هذا البعد في العمق، وعليه، نجد بأن هناك مسرحيات تحمل معانيَّ تدل على العمق والتنوع وهي الأكثر تميزاً، لأنها تعتمد الأبعاد التي تحدد حدث وزمن ومكان العرض المسرحي، وهذا ما يعتمده الكاتب المسرحي في دقة ترتيب الأحداث، ويستبعد ما يمكنه أن يؤثر في العرض المسرحي حتى وان كان مهماً، نظرا لأبعاد المسرح الثلاث.

وتتمثل الاشكالية هنا في الوعي الذي يؤكد أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المكان في النصوص والعروض المسرحية، وايضا ما يقدمه الكاتب من تفاصيل وجزئيات للمكان، فضلاً عن وصف المكان بشكل عام، وهذا ينزاح إلى الرؤية الإخراجية وممكنات استثمار المكان لأنه مساحة فاعلة ومؤثرة لتقديم الأحداث، ورسم طبيعة العلاقات التي تربط الشخصيات بالمكان الذي هو دافعٌ للعديد من الأفعال، وايضا تتجسد أهمية المكان ليس على المستوى الجغرافي فحسب، بل على المستوى الفكري الذي يقدمه المؤلف ويوظفه المخرج ومن ثم يجسده الممثل، لذا فلكل عرض مسرحي شكله ومحتواه الجمالي. وهنا يمكن لنا أن نحدد الاشكالية في السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن للمؤلف وحتى المخرج أن يوظف المكان جمالياً ودرامياً في العرض المسرحي؟

وقد يمكننا الإجابة على هذا التساؤل عبر آراء وكتابات المنظرين، ومنهم (هنريك إبسن) الذي يؤكد أن المكان هو «حيز يحيط بالفرد ويعيش بداخله، فهو السياق الجغرافي والمعماري، الذي يتسم بسمات وصفات تتوافق مع مجموعة الخصائص الفيزيائية أو الطبيعية». وعمل (إبسن) على أحداث ثورة فنية لا تقتصر على الشكل الفني فقط، وإنما تمتد لتشمل المضمون أيضا، لتغير تفكير المتلقي، وذلك عبر بناء مسرحي محكم وبلغة درامية واضحة ومعبرة عبر حوار شديد الإيجاز. وذلك كما في مسرحية (بيت الدمية) التي تناولت كفاح الزوجة في سبيل استقلالها وحريتها ومساواتها بالرجل، لم يكن فكراً مقبولاً في المجتمع الأوروبي، فجرأة الموضوع وجدية الطرح الدرامي أكدا مدى تمكن (إبسن) من فنه وإيمانه بالرؤى التي يطرحها حتى تصل إلى الجمهور، وعلى ضوء هذا الرأي كان هناك هجوم على (إبسن) واتهامه بجرأة الموضوع ووضع المرأة في البيت انتقاص منها، لكن عبر رؤيته الفنية قام باستحداث تقنيات فنية تخالف التقنيات المسرحية المتعارف عليها، وجسد ذلك في نهاية المسرحية وثورة (نورا) على البيت لتغادره غاضبة ثائرة وتصفق الباب خلفها. لذا تعد هذه الصورة (ابتكارا) للمكان والزمان، وايضا الشخصيات والقصص التي يمكن التعرف عليها وربطها بالجمهور. 

أسس (إبسن) في هذه المسرحية لوحدة المكان عبر الأحداث، التي حصلت في منزل محام شاب يدعى (هيملر)، وفي مكان واحد داخل غرفة المعيشة، والتي تعد واجهة المنزل، وتحوي العديد من الأثاث والجزئيات المؤثرة، منها: بيانو، مدفأة، خزانة للكتب، فمن الواضح أن هذه الغرفة هي المكان الرئيس في المنزل، لما يتضمنه من مائدة ومقاعد، إلى جانب الكراسي والمقعد الهزاز والمنضدة.

المكان في مسرح (إبسن) له أهمية واضحة، فلم يكن مجرد خلفية جمالية يجسد بوساطتها أحداث النص المسرحي ويحرك شخوصه داخل مساحة محددة، وإنما يمثل المكان بالنسبة له ركيزة درامية وضرورة فنية تحمل العديد من الدالات الدرامية. وارى بأن مفهوم المكان في المسرح اليوم، يعتمد التحولات التقنية والفنية وحتى الهندسية، التي تتأثر بالمتغيرات التقنية في العصر الرقمي، فضلا عن معمارية المسرح وما يحدث به أثر تطور البنى التحية.