ابراهيم العبادي
سواء اندلعت مواجهة مسلحة بين الاميركان والايرانيين ام تأجلت، فان الازمة المتصاعدة بين الطرفين وحلفائهما لن تجد حلولا قريبة وستبقى التحدي الاكبر الذي ينبغي معايشته، والاستعداد لتطوراته، والتعامل معه كأزمة مستدامة، ستأكل من عمر شعوب المنطقة واعصابها وستبقى أحد محركات القلق والصراع والانقلابات الايديولوجية والسياسية.
ربما لا يفكر الطرفان بالمضي نحو المواجهة المباشرة عسكريا، كما هو المتوقع بسبب الكلفة الهائلة والمضاعفات الكبيرة، لكن كلاهما يدرك بان العلاقات بينهما ستظل محكومة بطابع العداء والمواجهة والتعارض والريبة المتبادلة، لقد اصبح العداء لاميركا جزءا من هوية النظام الاسلامي في ايران بتعبير استاذ العلوم السياسية الشهير في ايران الدكتور صادق زيبا كلام، واصبح الموقف الايديولوجي عقيدة راسخة تتربى عليها اجيال الشعب وترسخها المؤسسات الحكومية، ثقافة منهجية، وهي في ذات الوقت عقيدة عسكرية ورؤية ستراتيجية لا تتزحزح، خسرت ايران فرصا مهمة لتعديل هذا المزاج الثوري أبان وجود شخصيات ذات عقلانية كبيرة لا يشك احد باخلاصها ودورها في تأسيس النظام الاسلامي وخوض المعارك الكبرى دفاعا عنه، لكن المنهج الايديولوجي هيمن فكريا وشعبويا حتى غدا امثال الراحل هاشمي رفسنجاني منبوذا ومشكوكا به لدى تيار محافظ يميني النزعة لا يكترث للمصالح الواقعية ويعيش المثالية عقيدة مذهبية دينية تستمد جوهر افكارها من خطب وتوجيهات ومقولات سياسية قالها مؤسس الثورة وزعيمها الراحل في لحظات التجلي الثوري والمواجهة المحمومة، فاصبحت خطا فكريا لا يمكن تجاوزه، وقيدا سياسيا من يكسره، ينتحر سياسيا لدى سواد اتباع المنهج الحماسي، ضاعت فرص كبيرة لخفض التوتر بين طهران وواشنطن أهدرتها صراعات الاصوليين والاصلاحيين ابان فترة رئاستي اوباما وقبلهما كانت محاولات الرئيس خاتمي التي احرقتها شعبوية الرئيس التالي احمدي نجاد، تسع عشرة مرة سعى خلالها اوباما لفتح حوارات مباشرة مع طهران لم يكن الرئيس حسن روحاني مستعدا للتجاوب معها، لان الاجواء ظلت مشحونة، والتوجس على اشده، والقرار ليس بيده، وكان العذر في ذلك ان فتح الحوار واعادة العلاقات لن يجني منهما النظام الاسلامي الكثير سوى عودة المؤامرات والدسائس والتخريب الثقافي والاختراق السياسي والتجسس الدبلوماسي، هذه النظرة ظلت تحكم صناعة الموقف الايراني من اميركا وهي نظرة تاريخية عقائدية تحولت الى نزعة سيكولوجية وقاعدة تتحرك منها كل سياسات الدولة والنظام والعقيدة العسكرية والتوجهات السياسية والثقافية ازاء الخارج، فالقضية في عمقها جوهرانية تناقضاتية، بمعنى يوم تعود العلاقات طبيعية مع اميركا يفقد النظام الاسلامي احد اكبر مواصفات هويته وماهيته السياسية -الثقافية بوصفه يمثل قلعة الاستضعاف مقابل الاستكبار، وينشد كسر المعادلات السياسية المهيمنة على العلاقات الدولية، والقائمة على منطق القوة والهيمنة والمصلحة، وفق هذا المنطق تبلورت السياسة الايرانية، وتدير طهران علاقاتها الدولية ومصالحها من وحي فرضية العمل على تصحيح تلك العلاقات، ورفض منطق الخضوع والاستسلام الا في حالات الضرورة القصوى، التي تصل الى مرحلة تجرع السم كما وصفها الامام الراحل الخميني، اثناء قبوله بوقف الحرب مع نظام صدام، بعدما بان في الافق استحالة الاستمرار في الحرب من دون ان تهشم ايران رأسها كما وصف ذلك معلق غربي في حينها، اليوم يعيد السيد علي الخامنئي المقولة ذاتها مؤكدا ان المفاوضات سم مضاعف، وان التفاوض غير منطقي لان اميركا تريد فرض رؤيتها في قضايا العمق الستراتيجي الايراني في الخارج، ومديات الصواريخ الباليستية التي تقلق الاميركان واسرائيل وحلفاءهم القدامى والجدد، ملمحا الى ان انسحاب ادارة ترامب من الاتفاق النووي لم يكن بسبب سوء الاتفاق ذاته، بل لانه لم يتضمن القضايا التي تريد اميركا تقليم اظافر ايران بسببها، وتجريدها من قوتها، وهي الصواريخ والدور الاقليمي والنفوذ الخارجي، السيد الخامنئي حدد السياسة الراهنة من التصعيد الاميركي بمبدأ، لا حرب ولا مفاوضات، والمراهنة الايرانية تأمل بمجيء ادارة اميركية جديدة تعود الى الاتفاق الذي بقي العالم متمسكا به عدا ادارة ترامب واسرائيل والسعودية والامارات، غير ذلك لا يمكن تصور اي تغيير في الموقف الاميركي، فحتى مع مجيء ادارة جديدة وبدون اللجوء الى الحرب والضغوط، فان الجانبين مضطران للدخول في مفاوضات اجرائية لان البيروقراطية الادارية الاميركية ستنسف كل الامال المعقودة على الغاء العقوبات الاميركية بسرعة، واي ادارة مناهضة لسياسة ادارة ترامب ستجد نفسها غير متعجلة بهدف انتزاع تنازلات ايرانية، وبذات الوقت، حتى لا تبدو متراجعة عن اهداف محورية يعمل عليها مخططو سياسات الامن القومي الاميركي، ايران ستصمد حتى تلك اللحظة وستعلن انتصارها اذا تحققت هذه المراهنة، لكنه انتصار باهظ الثمن اقتصاديا، وستحتاج للتخفيف من تلك الضغوط والغائها، والاخرون عرفوا ايضا ان طهران لن تتفاوض الا اذا شعر النظام ان وجوده مهدد والمصلحة تقتضي التضحية بمواقف وسياسات من اجل المحافظة على اصل النظام ووجوده، وهذه النتيجة لن تأتي الا بعد مخاض طويل واستنزاف كبير وتهديدات تترجح في نهايتها فكرة القبول بتجرع السم، وهي لحظة يعمل اعداء ايران على تسريع الوصول اليها، وتراهن طهران على منع وقوعها لكن الخيارات ضئيلة ومحدودة والنهايات تبدو واضحة، نحن امام حروب طويلة متعددة الاوجه، اقتصادية وامنية، واستنزاف نفسي وصراعات اعلامية وتوظيف استخباري، انها فعلا صراع ارادات سيطول، وستكون خسائره جسيمة ومضاعفاته متشعبة في طول المنطقة وعرضها وسينتج عنها الكثير من التهديدات والازمات والصراعات
والمحاور .