الفعليّة المهاجَمة: النمط الفوضوي في قصيدة النثر

ثقافة 2024/01/07
...

 بشير حاجم

منذ العام 1972، تحديداً، تنبّه «كمال خير بك»(1) إلى تراجع الفعل وسيادة الجملة الاسمية وشبه الجملة في الإنتاج الحديث للشعر العربي.لقد أكّد، بدءاً، إن الفعل هو المستهدف ـ بتنحية اللواحق الثانوية عن الجملة الشعرية ـ في الهجوم على القواعد اللغوية: هذا ما يصبح أكثر وضوحاً حين يتعرّض الفعل نفسه مباشرة للهجوم. {خصوصاً في مجموعتيْ: نذير العظمة “اللحم والسنابل 1957” ، يوسف الخال “البئر المهجورة، 1958”، (كلتاهما صادرتان عن: دار مجلة شعر ـ بيروت “لبنان”)}.

ثمّ رأى أنَّ هجوماً كهذا على الفعل في عبارته الطبيعية، المجرّدة غير المجسّدة، ليس متحقّقاً بإحالته إلى اسم فقط، لا، بل أيضا باستبعاده عنها، ذاتها، بحافز من همٍّ، مبرّر بحياة حديثة، يدفع نحو تنقية التعبير من الإطالة السطحية.

هكذا، إذاً، تُخلي الجملة الفعلية مكانها لنظيرتها الاسمية: ففي المقطع الأول من نص أدونيس: الجرح، ضمن مجموعته (أغاني مهيار الدمشقي، دار مجلة شعر ـ بيروت “لبنان”، 1961)، ليس سوى فعل واحد فقط هو “يطول” متكرّر بعْد “حين” مرتين اثنتين لا غيْرهما على امتداد عشرة أسطر متألّفة من أربع وثلاثين كلمة: الورقُ النائمُ تحت الريحْ/ سفينة للجرحْ/ والزّمَنُ الهالك مجدُ الجرحْ/ والشّجر الطالع في أهدابنا/ بحيرةٌ للجرْح./ والجرحُ في الجسورْ/ حين يطول القبْرْ/ حين يطول الصَّبرْ/ بين ضِفافِ حبّنا وموتِنا، والجرْحْ/ إيماءةٌ والجرحُ في العبورْ.(2)

وفي نص يوسف الخال: موت، من مجموعته (قصائد في الأربعين، دار مجلة شعرـ بيروت «لبنان»، 1960)، ثمّة أربعة أفعال هي «مات، بكيت، بكى، بات» منها فعل واحد فقط هو الأول «مات» متكرّر بعْد «اليوم» مرتين اثنتين لجملة بعينها استهلالاً، ثم استغلاقاً لا سواهما ضمن سطورٍ أربعة عشر مشتملة على إحدى وأربعين كلمة: اليومَ مات صاحبي/ عيناه نجمتانْ/ بكيتُ فوق وجههِ/ بكى معي المكانْ./ الحيُّ بات صورةً/ على السواد: لا فمٌ/ على فمٍ/ لا وجهَ، لا لسانْ/ على الرصيف ههنا زجاجةٌ/ وههنا يدانْ/ لعائدٍ مع الصدى/ وفاته الزمانْ./ اليوم مات صاحبي/ عيناه نجمتانْ.(3)

أيْ بالرغم من غياب الفعل، هكذا، تُقدّم الجملة الاسمية لوحدها دلالة كاملة، بحسب خير بك، فضلاً عن شبه الجملة، وإنْ ليست تامّة، حيث يُشيع بها الشعراء الحداثيّون جُملاً فوضوية، دادائية ـ سوريالية، خصوصا أنسي الحاج في مجموعته (لن، دار مجلة شعر ـ بيروت «لبنان»، 1960).(4)

من هنا، بحسبه كذلك، إذا كان استخدام شبه الجملة شائعاً في الإنتاج الحديث للشعر العربي، حيث نماذجه الأهمّ عندي: الشّامي، العراقي، المصري، فإن النمط الفوضوي، على نحو خاص، كان حكرا لـ «قصيدة النثر».

لم يعِ هذا التنبّه منه إلا نقّاد قليلون، حتى اليوم، من أشهرهم حاتم الصكر، مثلاً، ضمْن بحث له (حول الإيقاع.. والإيقاع الداخلي في قصيدة النثر خاصة)(5). إذ ذهب فيه، تحت عنوان «ممهدات إيقاعية»، إلى أن هنالك: عدة ظواهر لا تزال تعمل منفردة لتهيئة ما يمكن تسميته «أرضية» صالحة لتحقيق الإيقاعات الداخلية التي ستجد تجسداتها الفنية (داخل النصوص) والجمالية (في القراءة) بعد أن تتأكد أعراف جديدة في فهم الشعر. ثمّ أشار، حيث «العوامل الممهدة»، إلى تغيّرات لبُنى لغوية نحوية: من أمثلة هذه التغيرات يدلنا كمال خير بك إلى ما يسميه «تراجع الفعل، وسيادة الجملة الاسمية وشبه الجملة»، وهو تحوير إيقاعي يتناول ترتيب الجملة.

لذلك قلتُ في مناسبات عديدة(6)، مراراً _ تكراراً، إن من أهم قوانين «قصيدة النثر»، تركيبيّاًـ دلاليّاًـ صوتيّاً، أنها تُغلِّب الجملة الاسمية على نظيرتها الفعلية، بالضرورة، حيث هذا التغليب من أبرز التجلّيات النسقية المهيمنة فيها.

****

* مُلخّص لجزء من أحد مباحث دراستي: مخاض مريم ـ الريادة التنظيرية لقصيدة نثر عربية / غير منشورة. {عنوانها الأول مستوحى من الآية القرآنية (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة)، تماماً، حيث وُلد «عيسى اليسوع»، بعد مخاضها، وما زال القوم مختلفين عليه: أهو ابنُ العذراء أم الله أم النّجّار؟}.

(1) أستند إلى كتابه: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر ـ دراسة حول الإطار الاجتماعي الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبية، قام بالترجمة لجنة من أصدقاء المؤلف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت «لبنان»، ط2، 1986، ص: 156 ـ 160.

(2) الأعمال الشعريّة / أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى، أدونيس، دار المدى للثقافة والنشر ـ دمشق «سوريا» – بيروت «لبنان»، 1996، ص169.

(3) الأعمال الشعريّة الكاملة، يوسف الخال، دار العودة للصحافة والطباعة والنشر ـ بيروت «لبنان»، ط2، 1979، ص: 275 ـ 276.

(4) (إن قصيدة النثر - وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيا - عمل شاعر ملعون. الملعون في جسده ووجدانه الملعون يضيق بعالم نقي. إنه لا يضطجع على إرث الماضي. إنه غاز. وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كان إلى الحرية. إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر.)/ من أواخر مقدّمة «أنسي الحاج» لمجموعته: لن، دار الجديد ـ بيروت «لبنان»، ط3، 1994، ص23.

(5) يُنظر هذا البحث في كتابه: ما لا تؤديه الصفة ـ المقتربات اللسانية والأسلوبية والشعرية، دار كتابات ـ بيروت «لبنان»، ط1، 1993، ص: 27 ـ 46.

(6) خصوصاً ضمْن كتابي: النسق النصي و النسق المتني ـ في الحركتين المتضافرتين للقصيدة (الانبناء/ الانهدام)، الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ـ بغداد، ط1، 2010، ص151.