الأيدلوجي في الشعر

ثقافة 2024/01/09
...

 د. كريم شغيدل


تمثل قصيدة (أخبار يومية) للشاعر عدنان الصائغ، من مجموعته (و...) أنموذجاً لتجسيد التزاوج بين التوثيق والأدلجة، إذ تستظهر موقفاً أيديولوجياً معارضاً ومحرضاً من خلال آلية المقارنة بين الوقائع اليومية للعنف:

ماذا ستبصرُ حين تفتحُ مقلتيكَ

سوى خرائبَ خلّفتها الحربُ

أرتالاً من الغرباء

تمثالاً هوى..

 هكذا تبدأ الحركة الأولى للنص، من الجو العام للحرب بتساؤل يفضي إلى النفي، فالحرب لا تخلف سوى الخرائب، وفي ظل ذلك الخراب ذي الطابع السكوني تقتحم المشهد قوة عسكرية (أرتالاً من الغرباء) وهذا الفعل تتبعه ردة فعل دراماتيكية (تمثالاً هوى) ولولا الطابع التوثيقي للنص لبقي المشهد في إطار الكناية الشعرية، لكن اقتران سقوط التمثال بأرتال الغرباء يحيلنا إلى سقوط تمثال (صدام حسين) في ساحة (الفردوس) بعد دخول القوات الأميركية، وهي لحظة تاريخية شكلت انعطافة حادة في الذاكرة العراقية، وتحولت إلى(بروبكندا إعلامية) توثق بالصورة ما حدث في 9- 4- 2003، وهي الصورة التي هزت مشاعر العراقيين الناقمين على النظام، مثلما هزت مشاعر الموالين له، ما لم نقل إنها هزت العالم بأسره، ثم ينتقل نص الصائغ بحركة جديدة ذات طابع كنائي، مشحون أيديولوجياً، إذ يقول: (فنمت تماثيلٌ أُخرْ/ وتناسلت- كشبيهها- تلك الصورْ).

وهنا يتدخل الموقف السياسي من البدلاء، أي الساسة الجدد الذين تصدوا لمرحلة ما بعد التمثال، وهم بحسب موقف الشاعر ورؤيته: تماثيل بدل التمثال الواحد، وقد تناسلت صورهم كصور الحاكم السابق، وهذا اشتغال ثقافي، فالتماثيل والصور ملمح فني/ ثقافي من ملامح المدينة، وقد جسدت المنظومة التشكيلية من صور وتماثيل هيمنة السلطة الدكتاتورية، وبسطت نفوذها على البيئة البصرية لعموم مدن العراق، بحيث جسدت أحادية الحاكم، وأظهرته بلقطات متعددة، بأزياء مختلفة، وبعلامات دالة على القوة والقسوة، بقصد ترسيخ معاني الشجاعة والبطولة والحزم والقوة والقسوة، فالتكرار بحسب المنظور النفسي يولد عقيدة، وكانت الدوائر المخابراتية تتعمد ترسيخ صورة البطل المخيف في ذاكرة الناس بتكرارها في الأماكن العامة والظهور من على شاشات التلفزيون وتصدرها للصفحات الأولى للصحف اليومية وعلى أبواب المؤسسات والدوائر الحكومية وغرف الموظفين والممرات والمقاهي والمحال التجارية والبيوت، بحسب الأوامر التي كانت تصدر من الأجهزة الأمنية ومنظمات حزب البعث، بحيث شكلت صور الدكتاتور وتماثيله عقدة نفسية للمواطن العراقي، لأنها تعدت الحدود، وهي حالة ربما لم تتكرر حتى في الدول التي تحكمها أنظمة شمولية ودكتاتورية، لذلك وجب توضيحها لمعرفة المدلول الدقيق للنص، فالقارئ العربي أو الغربي لا يعي حجم الهيمنة التي فرضتها تلك التماثيل والصور، ولكون النص يستبطن مدلولاً خاصاً يرتبط بذاكرة جمعية للشعب العراقي، ويستبطن مؤثرات رمزية لما يعنيه التمثال بوصفه منتجاً ثقافياً- سياسياً تم استغلاله لتكريس الهيمنة الأيديولوجية للنظام، ثم ينتقل النص إلى حركة توثيقية أخرى، بتساؤل إنكاري يفضي إلى النفي أيضاً، لرسم مشهد حياتي أصبح مألوفاً بقوله: (ماذا ستحلمُ/ أو ماذا ستسمعُ/ غيرَ شاحنةٍ مفخّخةٍ...،تتطاير حولها الأطفالُ، أقماراً مذبّحةً).

    وهنا يعرج النص على نتائج ما حدث، ليوثق مشهد العنف الذي أصبح بديلاً عن كل فعل ثقافي أو سياسي أو اجتماعي، فصورة الشاحنة المفخخة التي تتطاير حولها أشلاء الأطفال تختزل قسوة العنف الذي تسيَّد المشهد العراقي، وهو المشهد الذي دمر الحلم العراقي بالتغيير، ثم تلحق هذه الحركة التوثيقية بحركة خطابية مباشرة تعبر عن رأي سياسي/ أيديولوجي في ما يجري، أو وجهة نظر الشاعر التي يقرنها بتساؤل إنكاري أو تهكمي، إذ يقول: (وموج جنازرٍ وعمائم/ ومقاولين تقاسموا أشلاءنا، وتنازعوا.. لمن الظفرْ).    

   وكأن النص أراد اختزال الحدث الذي ما يزال مستمراً، ابتداءً من الخلفية الدلالية للحرب عموماً، وصولاً إلى لحظة دخول القوات الأميركية وإسقاط أضخم  تمثال للرئيس العراقي السابق كان يتوسط ساحة الفردوس المقابلة لأضخم فندقين أصبحا موقعاً لمراكز الإعلام العربية والدولية في مركز العاصمة بغداد، أثناء الحرب وبعدها، فالحرب واقع وسقوط التمثال واقع، لكن نمو تماثيل وصور أخرى هو كناية عن ظهور ساسة يشبهون الدكتاتور، ومن الواقع ينتقل النص إلى الحلم، ثم يعود إلى الواقع (ماذا ستحلم/ ماذا ستسمع غير شاحنة...) في الحلم نرى وفي الواقع نسمع ثم تتشكل الصورة المرعبة لتجسد مشهد تطاير الأطفال، ثم ينتقل النص لكناية جديدة (جنازر- عمائم- مقاولين)، وبخطابية مباشرة يدين الشاعر قوات الاحتلال والساسة الجدد الذين أعقبوا النظام السابق وصولاً إلى السؤال الذي يستعيد فكرة الحرب والصراعات.

  ويستمر النص في تشكيل صوره بتوظيف الحواس بدلالة تشير إلى الاستلاب (السمع والبصر) على أن فعل القراءة فعل بصري، إذ يأخذ النص منحىً تاريخياً يربط بين جنائن بابل ودموية كربلاء مجسدة بشخص الحسين، في إشارة إلى حركية الدم العراقي التي تعني نهايات البلاد أو نهايات البشر، ويحاول إعطاء الحدث بعداً أسطورياً وكونياً مزدوجاً من خلال توظيف اللازمة السردية لملحمة كلكامش (الرائي) ليقرنها بملحمة الخليقة فيقول: (ماذا ستقرأُ/ أو ستبصرُ -أيها الرائي- بملحمة الخليقة غير هذا الدم يجري/ من جنائن بابل حتى الحسين/ إلى نهايات البلاد، أو البشر).

 وهكذا ينطلق نص الصائغ من اليومي إلى الكوني ليوسع من مدلول العنف بين الحقيقي والرمزي، والتاريخي والسياسي، والحضاري والثقافي، والمحلي والكوني، ويجسد استلاب الإنسان في المكان ذاته (العراق) الذي تكررت فيه موجات العنف عبر التاريخ، فالإنسان يسمع ويرى ويقرأ ويُهدر دمه وتُستباح حياته بحروب الحكام وصراعاتهم وبغزوات القوى الخارجية، لذلك يحاول الكثير من الشعراء العراقيين المزج بين محاكاة الواقع والتاريخ بإسقاط دلالات التاريخ على الواقع الراهن.