رولا حسن
في عالمٍ يضجُّ بالخراب والموت، في زمنٍ سقطت فيه كل الأقنعة، وتساقطت كل المطلقات. في عالمٍ يشهدُ أعلى درجات التقدم العلمي وأعلى موجات الديمقراطيَّة لكنَّه بالمقابل ينتجُ أعنف أشكال العنف والتعصب والإلغاء العرقي والمعرفي وأبشع أنواع التكفير، ويتفننُ في أساليب الموت والتصفية وينتجُ أكثر أشكال الهيمنة حداثة، حاولت أفراح الفهد أنْ تلتقطَ هشاشة هذا العالم ولملمة شظاياه داخل الإنسان الذي كان الضحيَّة الأولى والأخيرة لكل ما سبق.
كلام موجز
في مجموعتها القصصيَّة “سكين النحت” لم يعد هناك وقتٌ لقولٍ طويلٍ، ليكن الكلام موجزاً ودالَّاً يضع اليد على الجرح، من هنا جاءت لقطات الهندال لعوالمها محكمة بضربات خفيفة لكنها موجعة، إذ حاولت أنْ ترسمَ العالمَ بريشة المرأة العارفة ببواطن الأشياء، الأشياء التي تلمستها بيديها وقلبها فتخلق علاقة بين العالم الداخلي والخارجي عبر تفاصيل خراب العالم الخارجي، عالم ملموس هو العالم الخارجي وعالم الداخل التي تبرعُ الكاتبة بخلق علاقاتٍ من نوعٍ مختلفٍ معه عبر شبكة أشبه بشبكة العنكبوت، “احتراقات متكسرة” بمكوناته اللعبة والطفلة والبحر:
العالم الداخلي للفتاة التي خرجت من البيت غاضبة هي الطفلة ذاتها التي خرجت من البيت غاضبة لأنَّ لعبتها مكسورة أو كسرت، وجدت لها عيناً في البحر.
ثم هناك الفتاة الصغيرة التي نجت دون أهلها من زورق مهاجر ومعها لعبة لم تجففها الشمس.
مفردات كثيرة يزدحم به النص القصير ليشي بانكسار الذات وتهشمها أمام انكسار العالم وقسوته.
تحاول الهندال رسم خريطة العالم حولها كما تراه وليس كما يجب أنْ يكونَ، على سبيل المثال لا الحصر قصة “شكوى الجدران”، هناك عالمان، عالم الميتم الداخلي الذي يشبه العالم الداخلي للساردة، والعالم الخارجي الذي هو انعكاسٌ للاثنين معاً.
تشتغل الهندال على مدى متواليتها القصصيَّة، بجدٍ على الكولاجات البصريَّة وتكشف هذه التقنيَّة عن نزوعٍ واضحٍ إلى التشظي والتداخل، وينهض القص هنا بشكلٍ رئيسٍ على آليَّة التجميع والتوليف بين عناصر بصريَّة وسرديَّة من خلال بناءات خاصة من التقنيات الأثيرة، من هذه التقنيات تفتيت المشهد إلى مجموعة كبيرة من اللقطات المتداخلة، المتجاورة، المتوالية وعلى التوازي من هذا كله يتمُّ تفتيت خطيَّة الزمن وتقطيع أوصال الحكاية وتداخل الأحداث عبر استخدام مونتاجٍ بصري يعملُ على ترتيب اللقطات لتشكيل بناءٍ درامي عبر لغة بصريَّة تمتلك القدرة على التقاط الخبايا وإظهارها كما في “باب الأرق”، “سكين النحت”، “الناعبة” و”مغلق للجرد”.. الخ.
يتميز نص الهندال بكثرة الإحالات وتوالي الإشارات المعرفيَّة الكثيفة وتشابك الثقافات في النص السردي، وبتداخلها وكأنَّها تجمعُ أنقاضَ تجربةٍ وأنقاضَ ذكريات، فالعالم حولها عبارة عن أنقاضٍ من كل شيء، ومع ذلك لا تتواني عن الإفصاح عن مساحة شعوريَّة واسعة تتقاطع فيها الإشارات بصخبٍ بارزٍ وفق ثنائيَّة (مادي، شعوري) وتظهر عالماً غامضاً وملتبساً وعصياً على الفهم فالصورة لديها فياضة بطاقات إيحائيَّة واحتماليَّة. قصة “الهذيان”، “جذور الوصيَّة” ، “مرمى بطبيعة الحال”... إلخ.
العنوان
اهتمت الكاتبة بالعنوان كعتبة نصيَّة أولى للدخول إلى النص، فما هو إلا مفتاحٌ من النسخ الكثيرة التي امتلكتها ورمتها أمام القارئ ليجرب دخوله إلى بيت النص وهو الأمر كذلك جزءٌ مهمٌ من البناء الإستراتيجي للنص وعلاقته بالنص ليست علاقة سهلة على الإطلاق.
العتبة النصيَّة الثانية التي استخدمتها الكاتبة بعد العنوان والتي لا تقل أهميَّة عنه هي الافتتاحيات المعرفيَّة التي هي عبارة عن اقتباسات لكتاب وشعراء ومفكرين أمثال قلسم حداد، باول تسيلان، عبد الله القصيبي، ميشيل فوكو، ايريش فروم، وآخرين، وهذا الاقتباس إضافة إلى العنوان يمنحُ النصَّ سلطة من نوعٍ خاصٍ، ذلك أنَّه يخبر القارئ الذي لم يقرأ النص شيئاً عن هذا النص وإنْ بدا هنا الأمر غامضاً قليلاً ولكنْ مع ذلك يسهمُ بشكلٍ من الأشكال في فك شيفرات النص المتعددة.
حاولت الهندال في نصوصها الـ37 الدخولَ الى العوالم الداخليَّة للإنسان عبر تحليلها للمشاعر واستخراج الباطني منها، لذا جاءت جملها قصيرة ومكثفة وكثرت المعاني التي تعبر عن حالة نصف شعوريَّة تقابلها على التوازي حالة نصف ماديَّة ليكتمل العالم الذي تشكله.
وهي من خلال هذه الإستراتيجيَّة تغوصُ في العالم الداخلي بحرفيَّة بالغة مستخرجة رواسب الماضي والحاضر والمستقبل من أحشاء اللاشعور وتطرحها بحريَّة على الورق فتصور النفس البشريَّة من الداخل لتفرز ما بداخلها، ولذلك جاءت قصصها القصيرة أو نصوصها - إنْ صحَّ التعبير - تعبيراً عن انفعالات حيَّة ودفينة معاً، وعلى الرغم من اللاحقيقة أحياناً في النصوص لكنها عكست ببراعة الواقع القاسي للإنسان المعاصر ومعاناته، وقد تمتعت بحاسة النفاذ إلى الداخل الإنساني، الأمر الذي يُحْدِثُ هزة في شعور القارئ لا يمكن تجاهلها.
اعتمدت الهندال اللعب على الشكل والبناء والتكثيف واختزال الحدث المحكي، مستفيدة من مهارتها اللغويَّة في القص، لا سيما في قصصها القصيرة جداً مثل بلل، موت وحيد، ذاكرة معلقة، العصفوريَّة، ألعاب ناريَّة.. وهذه الأطر اللغويَّة المقننة مكنتها من فتح فضاءات دلاليَّة جديدة ومتنوعة من خلال اللعب على الفضاء الافتراضي الذي توفره اللغة وأيضاً الإحالات التناصيَّة التي تفتح مسارات واسعة للتأويل.
اتبعت الهندال تقنيَّة التداعي وهي إحدى التقنيات السرديَّة القريبة بعض الشيء من مفهوم تيار الوعي، حيث تتداعى الأفكار التي قد تبدو غير مترابطة تماماً، وهنا فإنَّ القارئ يدخلُ ذهنَ الكاتبِ، أو بتعبيرٍ آخر يتركُ له الكاتب مكاناً ليدخل ويتابع المشاهدة والأحداث غير المترابطة، ويفك شيفرتها وتحتاج والحال كذلك إلى قدرٍ من الوعي للتواصل معها. هذه الآليَّة السرديَّة تستهدفُ كسر حالة الاسترخاء الذهني التي قد يستدعيها وضوح النص كي يمارس القارئ نوعاً من فرح الظن اللذيذ، على حد تعبير مالارميه.
فالسرد لدى أفراح لا يمضي في طريقٍ ممتدٍ، لكنَّه يأخذ شكل تموجات دلاليَّة تنتجها الذاكرة وبالتالي، فإنَّ المضمون لا يتأسس على نمو الدلالات فقط، وإنما على تجاور المفردات التي تؤدي وظيفتها أيضاً في إيصال النص إلى القارئ.
عبر 37 نصاً مكثفاً ومشحوناً بالدلالات قادتنا أفراح الهندال في دروب النفس البشريَّة الوعرة وتركتنا هناك وحيدين نكتشفُ ضعفنا وهشاشتنا وخذلاننا.