في الحكومة العالميَّة

آراء 2024/01/10
...

 د. أثير ناظم الجاسور

لم يقف المفكرون ولا المدارس الفكرية ومراكز التفكير عن التنظير للدولة وعناصرها وقدراتها ومستويات العلاقات التي تربطها في ما بينها سهلة كانت أم معقدة، من ثم لم تقتصر في ما بعد النظرة على مستوى ماهية الدول وتصنيفها وانفرادها في إدارة شؤون العالم من خلال علاقات متشابكة، وحتى بعد تحول المفاهيم والتغير الحاصل في العلاقات ودخول مؤسسات من غير الدول، والحديث عن نظام عالمي تتشارك فيه الدول مع المنظمات الأخرى، ليشكلوا صورة أخرى مغايرة عن تلك الصورة النمطية،
التي تشكلت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكن هذا لا يمنع من أن النظريات التي تحدثت عن شكل ومضمون النظام، هي بالأساس نابعة من تجارب شخصية، إضافة إلى دراسة واقع التطورات الدولية والعالمية، من ثم كانت هناك مدارس فكرية ومنطلقات فلسفية، تبحث في فكرة أن هذا العالم بالضرورة يُحكم من قبل حكومة عالمية تعمل على تنظيم شؤونه وتضع القواعد والقوانين التي على أساسها يتم تحقيقها.
بالضرورة وقبل الولوج في مفهوم هذه المدارس، التي تتناول جوانب مختلفة من تفسيرات ما تتضمنه من أفكار لا بدَّ من معرفة أن العالم اليوم يُدار بطريقة قياس مقدار ما تمتلكه الدولة من مقومات اقتصادية ومالية، تساعدها على خلق قدرات إضافية تلعب دور في مسألة فرض الهيمنة على جميع التفاصيل، هذا إلى جانب قدراتها الأخرى، التي تعززها الأولى وتدعمها، بالتالي كان الحديث عن عالم متكامل مترابط الشغل الشاغل لمراكز الأفكار والمفكرين، الذين صبّوا اهتمامهم على العالم المحكوم من قبل حكومة لها قوانينها وقواعدها التي تسري على كل نقطة من هذا العالم، عالم اليوم تُحدده قواعد القوة والهيمنة والسيطرة بالقدر الذي تقابله دعوات تحقيق العدالة والأخلاق في العمل السياسي، لكن هذا قد لا يتوافق مع حركة العالم الذي يُدار وفق عقلية المهيمن على القرار في العالم والمتحكم بتفاصيل مدخلات ومخرجات
النظام.
جاءت أفكار المدارس الفكرية المتوافقة مع ضرورة تحقيق فكرة الحكومة العالمية بمجموعة من التصورات والسلوكيات، التي لا بد من تحقيقها على أقل تقدير لتكون البداية لتكوين هيكل تنظيمي عالمي جديد يسوده العدالة والأخلاق على اعتبار أن للسياسة الدولية بُعدًا أخلاقيًّا لا يمكن تجاهله وهذا ما قد نتلمسه في العديد من المواقف والقضايا المهمة في العالم، لكن السؤال اي قضايا؟، وما هي الكيفية التي تجعل منها مهمة؟، وما مقياس المهم والأهم والأكثر اهمية في تصنيف هذه القضايا؟، لعل الخطوات التي يتم اتباعها في عملية تفسير وتحليل ونقد مثل هكذا موضوعات تستند بالأساس على دراسة الصور الموضوعة من قبل الحكومات المهيمنة أو المؤسسات الفاعلة في النظام، أو كما يحاول البعض يصفها بصفة المتحكم بالقرار العالمي الاقتصادي، من جانب آخر دراسة تجربة المفكر والمنظر من زوايا متعددة لا تقتصر على القراءة المتعلقة بالأحداث والنتائج بقدر ما تتم عملية تصفية فكرية واختزال النتائج ووضع البدائل وفق متبنيات المفكر أو المخطط.
جاءت هذه الفكرة أو التوجه أو تحت أي مسمى من أن تتم عملية بناء عالم جديد لكن بقواعد مختلفة، تسير وفق متبنيات وقياسات الأقوى الذي يستطيع أن يتحكم بالصنع والصياغة والتنفيذ، إلى جانب الأفكار التي وضعتها المدارس، سواء تلك التي نظرت للعلاقات الدولية أو حتى خارج هذا الاطار والتي تم استغلال أفكارها تحت مسميات متعددة من خلال مخاطبة أبعاد أخرى مختلفة عن امتلاك القوة والهيمنة، تلك الأبعاد الأخلاقية في السياسة الدولية، التي تم توظيفها ضمن الأعمال النظرية والعملية، كالمساعدات والديمقراطية وحقوق الإنسان والتدخل
الإنساني الخ... من المفاهيم التي يتم الولوج من خلالها للساحات الفارغة المرسومة وفق معايير استراتيجية، فالكوزموبوليتانية مثلا تحدثت عن الأبعاد السياسية والأخلاقية، وتم تقسيمها من حيث البعد الأول الذي ينادي بالقضاء على الحدود بين الدول بهدف تحقيق الحكومة العالمية، والبعد الثاني الأخلاقي أطلقوا عليه مسمى الفضاء العولمي أو ساحة انعدام
التفضيل بين المواطنين، سواء بالدولة الواحدة أو الدولة الأخرى، بالمحصلة فالكوزموبوليتانية بشقيها السياسي والأخلاقي تستشهد بمفردة (المواطن العالمي) أي إننا كأفراد من الممكن أن نصبح مواطني العالم بمجرد يتم إرساء القواعد التي تحقق الحكومة العالمية، وهذا يدفع انصار هذه المدرسة إلى فكرة إلغاء عضوية الفرد في الجماعات، أما المدرسة الجماعاتية تنتقد فكرة الإلغاء هذه، لكن وتصر على فكرة أن الفرد الفاعل الأخلاقي في جماعته يؤسس لفكرة أخلاقية بعيدة المدى، لكن مع بقاء الهويات حتى يستطيع أن يؤدي عملية التحليل الأخلاقي، سواء في مجتمعه أو المجتمعات الأخرى.
وعند تحديد هذه النقاط جاء السؤال الذي شغل الباحثين على عاتق من تقع مسؤولية إدارة هذه الحكومة؟، ومن هم الأشخاص أو الجماعات المهمين في هذه التجربة؟، سواء
كنا مع النظرية المعيارية برمتها ومدارسها وجماعتها الفرعية منها (الكوزموبوليتانيَّة - الجماعاتيَّة)، أم ضد الفكرة تبقى شاخصة التجارب السابقة والأحداث الحالية التي بالضرورة تضع الأسس لعالم ملؤه صراعات وأحداث تعج بالفوضى، بالتالي فإن السؤال هنا هل هذه الفوضى هي المُمهد لإقامة هذه الحكومة التي تؤكد على تشكيلها الهيئات والشركات والجماعات الفاعلة في النظام؟، الحقيقة تخبرنا أن النظام العالمي في شكله وتركيبته الحالية خالٍ من رؤية واضحة للمستقبل، وكل ما يتم طرحه اليوم هو عبارة عن تحليل وكل ما يتم طرحه مجموعة من التصورات التي تعمل على دراسة حال النظام وفواعله المتنافسين، بالتالي
ما يتم طرحه ضمن فكرة الحكومة العالمية هو عبارة عن تأسيس لطريقة عمل القوة التي ستهيمن بالنتيجة على وسائل القوة بمختلف أشكالها، وفكرة إلغاء الحدود والهوية الواحدة فكرة أقرب للمثالية، لاعتبارات التناقض والتعارض الفكري والحضاري بين الأمم، إلى جانب أن إنشاء حكومة تتولى قيادة هذا العالم، سواء كانت تشاركية بين القوى والتي ستعمل على إفراغ استراتيجياتها من تحقيق
المصلحة الذاتية، وهذا بعيد عن المنطق والعقل، أو حكومة القوة الأكثر تحكم التي لا تستطيع أن تلغي فكرة التنافس مع القوى الفاعلة الأخرى حتى وإن كانت مهيمنة، بالنتيجة العالم يسير صوب التوازن غير المنضبط كمعادلة
بوجود قوى كبرى متحكمة وقوى فرعية تساعدها على تحقيق مصالحها، من خلال بروز فكرة التحالفات والمعسكرات، بالتالي فإن الحكومة العالمية بالرغم من الحديث
عنها والعمل على تحقيقها تبقى رهينة التوافق والتشارك بين الحالمين بتأسيسها، وبين القوى التي لا تجد مبررا لذوبانها في مشروع قد يلغي وجودها، وعلى هذا الأساس مهما كانت التنظيرات والجهود المبذولة في تحقيق هذا المشروع، لا يمكن أن يكون اهم من مصلحة القوى التي تحاول تأسيس نظام يحقق أهدافهاالوطنية.