فلسفة المجال العام.. حيزٌ معنويٌّ لفضاءٍ رمزي

ثقافة 2024/01/10
...

 حازم رعد

بداية وقبل الشروع في تحديد نوع الفلسفة و{المفاهيم} التي يمكن الحديث عنها في هذا المقال، ينبغي أن نختار مفرداتنا بعناية فائقة بشرط أن تتناسب مع مشروعنا الذي نرنو إلى إرساء معالمه في المجتمع “وهو الفكرة التي أطمح إليها لنشر الأفكار الفلسفيَّة اجتماعياً” وبدءاً ينبغي التعرف على المجال العام وعلى الجذور التاريخيَّة التي أسهمت في إيجاده وابتعاثه، وعن أهم المحطات والفلاسفة الذين دشنوا نظريَّة خاصة به، فقد قيل (العرش قبل النقش) كناية عن أهميَّة تحديد المقدمات التي هي منطلق للوصول إلى نتائج واضحة ومنطقيَّة.
يقعُ المجال العام في مقابل المجال الخاص إذن، فهناك مجالان الأول منهما هو عالمنا الاجتماعي بكل تفصيلاته التي تتعلقُ بإبداء الرأي والنقاشات والحوار الذي يدشنُ وضعاً مقبولاً عند الجميع، ويعبر عن توافقهم على قضايا ذات شأن عامٍ ومشتركٍ لهم، بينما المجال الخاصُ هو الحياة الفرديَّة الخاصَّة بالإنسان التي تقعُ موضوعاً للحريَّة الفرديَّة والتي تعدُّ بوجهٍ من الوجوه مسؤوليَّة شخصيَّة بالفرد ذاته ومن زاوية أخرى.
إنَّ المجال العام، هو ما ينتج المجال الخاص، أي يعيد انتشار ما يضمن أفق وإعادة انتظام المجال الخاص في المؤسسة عبر آليات الديمقراطيَّة التي هي نتاجٌ للمجال العام، وعلى أساس ذلك فإنَّه يستدعي المجال العام وجود ولو حدٍ أدنى من الديمقراطيَّة بمعنى تكافئ الفرص والاعتراف بالآخر وعدم إلغاء أي أحدٍ مهما كان لونه ومعتقده وأفكاره، وذلك معنى كونه فضاءً عمومياً.
تاريخياً تعودُ جذور فكرة المجال العام كلحظة تداوليَّة في المجتمعات الإنسانيَّة وقبل نحتها كمفهومٍ في صياغة نظريَّة واصطلاحيَّة، إلى حقبة اليونان القديمة حيثما كان يجتمع أهل أثينا في الساحات العامة “الاغورا” لمناقشة القضايا والمسائل المتعلقة بالشأن العام الديني والسياسي والاقتصادي ومسائل تتعلق بالقضاء وفض المنازعات وتصفير الخصومات المختلفة بين أبناء المجتمع الواحد، والشيء الأكيد الذي أسهم في تفعيل وأهميَّة فكرة النقاش والحوار العمومي في الميادين العامَّة في ذلك الوضع هو الديمقراطيَّة، إذ كان للناس مباشرة حكم أنفسهم لأنفسهم بأنفسهم عبر تلك الميادين والمنصات التي يناقش فيها الشأن العام لأبناء أثينا وباقي مدن اليونان القديمة.
ولكن يحيل بعض الباحثين ظهور الفضاء العام كان في القرن السابع عشر في انكلترا، وفي القرن الثامن عشر في فرنسا وبدأ المجال العام يتشكل في المقاهي والصالونات والأماكن العامة ثم انتقل إلى البيوت والمجالس الاجتماعيَّة العامة، كان الناس آنذاك يناقشون مختلف القضايا الثقافيَّة والأدبيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة وظهر عن ذلك تمثيل المواطنين في السلطة عبر الانتخاب والبرلمان.
من هنا يتضح لنا بشكلٍ كبيرٍ لا لبسَ فيه، أنَّه لولا العمل الديمقراطي ومساحات الحوار والرأي العام الذي هو ممارسة نقديَّة جماعيَّة لما أمكن إيجاد التشريعات اللازمة والقوانين التي تضمن بقاء مجال الحريَّة الفرديَّة في الواقع ولأصبح هذا الفضاء “الخاص” عرضة للانتهاك أو لفرض الإرادات ونحو ذلك، إذ النقاش العام والتواصل والتلاقي داخل ميدان الفضاء أو المجال العام يسهم في تثبيت المجال الخاص ولزوم احترامه والاهتمام فيه فأحدهما مؤثر في الآخر ولازم عللي لوجود الآخر.
وبشكلٍ عامٍ يتمُّ تحديد المجال العام أو “الفضاء العمومي” بمجموعة تعريفات أبرزها وأكثرها شموليَّة وتوصيفاً لحقيقة هذا المجال هي: فأولاً يعرف يورغن هابرماس المجال العام بأنَّه (الحيز المعنوي الذي يتمُّ فيه عقد النقاشات العامَّة من أجل اتخاذ القرارات التي تسير الشأن العام) وشرط المعنويَّة في تعريف المجال العام شرط توضيحي يؤكد إمكانيَّة الشمول لجميع المساحات والمنصات التي يمكن من خلالها عقد اللقاءات والتفاهمات حتى عبر منصات التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي وغير ذلك.
ثانياً يعرف لويز كيري المجال العام بأنَّه (فضاء رمزي يسمح للأفراد بالتموقع والتموضع داخل المجتمع واتجاهاته، فالمفهوم يحملُ في طياته فكرتين أساسيتين الأولى أنه مجال عمومي للتعبير الحر ينظر إليه كفضاءٍ للاتصال، والثانية أنَّ الأفراد بداخله يبرزون آراءهم من خلال النقاش العلني بحيث يلجؤون لاستخدام دلالاتٍ وحججٍ منطقيَّة عقلانيَّة في محاولة لإيجاد حلولٍ مناسبة للمسائل العامة).
أما ثالثاً فيعرف المجال العام بأنه (الميدان أو المؤسسة التي يجتمع فيها المواطنون لمناقشة ونقد القضايا السياسيَّة) ما يعني أنَّ المجال العام مرتبطٌ بشكلٍ مباشرٍ ووثيقٍ في طبيعة العلاقة بين المواطنين من جهة، والفعل السياسي من جهة أخرى، فهو بمعنى من المعاني مساهمٌ في تحديد الحقوق والواجبات وما ينبغي أنْ يكون عليه حال الدولة وعمل السلطة ووضعيات المواطنين واستحقاقاتهم.
تتفقُ هذه التعريفات بشكلٍ عامٍ على نقاطٍ عدة تحدد بشكلٍ قريبٍ مفهوم المجال العام، فهي تشير إلى كون المجال العام الميدان الذي يتداول فيه الأفراد حواراتهم ويجرون فيه نقاشاتهم العامة بحريَّة وتكافؤ للفرص وبدون قيود مسبقة أو مشروطة حول مسائل تعدُّ ذات نمطٍ عامٍ يتفاهم ويتلاقى المتحاورون في ذلك الميدان على أهميتها بالنسبة لهم جميعاً، وهو فضاءٌ واقعيٌ يتشكل من وعي الأفراد وتسالمهم على إنتاجه أفق اشتراكهم في معطياته التي يفيء بها عليهم، وأنَّه يبتني على مبدأ التواصل والاتصال بين الأفراد لا على الحض على الفرديَّة.
وكذلك تشير تلك التعريفات إلى أنَّ الآراء في المجال العام قائمة على المنطقيَّة والعقل لا على أساس أنَّها آراءٌ معبرة عن وجهات نظر تخلو من الضوابط والاتساق والواقعيَّة، فالمجال العام ليس هو الرأي العام الذي يقوم على إطلاق وجهات النظر من دون قيدٍ وشرطٍ كما يحصل في العقل الجمعي وقت الاحتشادات العامة.
وهذا الميدان قد يكون افتراضياً، ولكنه واقعيٌ قد يكون صالونات ثقافيَّة أو منتديات أدبيَّة أو تجمعات سياسيَّة أو منصات على مواقع التواصل الاجتماعي ونقابات عماليَّة وطلابيَّة ومنظمات مجتمع مدني.
وبحسب ما سبق فإنَّ المجال العام هو المجال الذي يحفظ للأفراد حقهم في التواصل المثمر والنقاش الإيجابي مع ضمان مناسيب متساوية لكل الأفراد في هذا المجال بإبداء الرأي والتعبير عن الإرادة والاشتراك في صنع القرار، فهو مجالٌ وسطٌ بين الدولة والمجتمع “الأفراد” يعبر فيه عن تطلعاتهم وآرائهم وأفكارهم بآليات النقاش والحوار والتفاهم واستمرار التواصل على وفق الآليات التي يتفق عليها بين الناشطين داخل هذا المجال.
إضافة لما سبق هناك نقطة مهمَّة في موضوعة المجال العام تتعلقُ بالمساحة التي يشملها هذا الحديث والنقاش، فإنَّ القول بأنَّ المجال العام ينحصرُ في مناقشاته على نقد وتحقيق المقولات السياسيَّة يشير إلى تحديد مساحة المجال العام وقصرها على ما يعرف بحدود الدولة الوستفاليَّة، أي يكون المجال العام بين الجماعات والأفراد داخل حدود الدولة الدستوريَّة والقانونيَّة، وهذا ما ذهب إليه يورغن هابرماس في فهمه لحيثيات هذا المجال.
بينما تنتقد الفيلسوفة الأميركيَّة نانسي فريزر على الحصر لحدود مساحات المجال العام، وتجد أنَّ هناك إمكانيَّة تحقيق مجال عامٍ عالمي أو كوني وهي توجه نقداً متعدد الأبعاد لهابرماس، بل لعموم الجيل الأول والثاني لمدرسة فرانكفورت، فتقصير النظر على المثقفين النقديين كأفرادٍ يشتغلون داخل هذا المجال يقصي فئاتٍ أخرى ناهيك عنَّ أنَّ عصرنا يختلفُ عن فاهمة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما هي ترى أنَّ الديمقراطيَّة بشكليها الاشتراكي والبرجوازي قد طوقت المجال العام وحدت منه بفعل تشريعات وقوانين قيدت الحريات وتواصل المواطنين وتفاهماتهم على حقوقهم ومستحقاتهم.
وترى الفلسفة أنَّ أهميَّة المجال العام تكمنُ في أنَّه الوسيط الحيوي بين الجمهور والدول الذي يعبر عن احتياجات ومطالب وطموحات عامة الناس، ويقدمها جاهزة على شكل مطالب متوافق على ضرورتها وأهميتها إلى السلطة، حيث يكون دور الأخيرة تلبيتها أو العمل على تحقيقها قدر المستطاع، ولذا فإنَّ إحدى السمات الواجب توفرها بالمجال العام أنْ يكون ذا تأثيرٍ فعلي في السلطة وبدونه لا قيمة حقيقيَّة له، وكذلك يشترط فيه على السلطة ألا تحتكر الحقيقة، ولا وسائل إنتاج المعرفة والإعلام، لأنَّ السيطرة على تلك الوسائل تمكن من إدارة الصراع بشكلٍ متعسفٍ له القدرة على تصويب الأفكار والآراء وقيادتها بالشكل الملائم للمصالح الخاصة لا العامة.
تؤكد الفلسفة ضرورة تفعيل المجال العام لكونه حلقة الوصل بين الدولة والمجتمعات المختلفة، كما أنَّه معبرٌ عن إرادة الجماهير والشارع، وأنَّ المسائل التي يناقشها يكون طابعها عقلانياً وتترجم هموم المجتمع واهتماماته، ما يسهل أمام السلطة معرفة ما يفكر فيه عامَّة الناس وما يتطلعون إليه، وكذلك أنَّ المجال العام الفضاء الذي تتبلور فيه وجهات النظر السياسيَّة التي تناقش قضايا ذات شأنٍ عامٍ مثل المشاركة السياسيَّة ودور المواطن في دعم المؤسسات وحفظ النظام والديمقراطيَّة وضرورة الاقتراع العام وإعطاء فسحاتٍ أوسع للحريات ولحقوق الإنسان والارتقاء بالوعي المجتمعي إلى مستويات رفيعة، يتطور المجال العام مع تقدم وسعة حضور وسائل التواصل والإعلام مثل الصحف والدوريات والتلفزيون والإذاعات، بل ويستخدم المجال العام أي وسيلة تمكنه من تشكيل رأي عام في مقابل رأي
السلطة.
لكنَّ الجدير بالأمر هو أنَّه الرأي العام ينحسر أمام السلطة، إذا ما تمكنت الأخيرة من السيطرة على وسائل التواصل والإعلام، لأنَّها تتمكن حينها من تشكيل الرأي العام الذي تبتغيه هي، وتحرك من خلاله الجمهور وتغير في وعيه وطرق تفكيره بالاتجاهات التي تجد أنَّ فيها تنحصر مصالح الدولة.