الأدب الديستوبي

ثقافة 2024/01/11
...

 عفاف مطر


تخيل أنك في بيتك تأكل وتقوم بعملك وأمامك شاشة رصد تراقب كل تحركاتك وتصرفاتك، ومثل هذه الشاشة موجودة ومنتشرة في كل أنحاء البلد الذي تعيش فيه، في المقاهي والأسواق والشوارع والباصات والسيارات، ومطلوب منك أن لا تفكر وأن لا تشعر لأن الأخ الأكبر يراقبك عبرها. رواية 1984 للروائي الانجليزي جورج أرويل نشرت عام 1949 وعدت من أخطر الكتب، آنذاك، وتم منع تداولها وذلك لاحتوائها على الأخ الأكبر، إلا أنها صنفت بعد ذلك ضمن أفضل مئة كتاب أصدر في القرن العشرين وترجمت إلى 65 لغة. تنتمي الرواية إلى الأدب الديستوبي أي يتم خلق مجتمع تخيلي بناءً على مجتمع حقيقي، أو استشرافاً لمستقبل يكثر فيه الفساد والحرب والنكبات والفقر والجهل. تم انتاج فيلم سينمائي مستوحى منها عام 1989 وعدت تصويراً عبقرياً لمظاهر الخداع الحكومي والمراقبة الشمولية، والتحكم الكبير في البروليتاريا أي عامة الشعب، وتسخير جميع الوسائل الممكنة للبقاء في السلطة. نحن الآن في مقاطعة إرستريب في أوشينيا، تشمل الرواية ثلاث مناطق محورية، أوشينيا وهي رمز الاشتراكية الانجليزية، وإستاسيا وترمز إلى البلشفية الروسية، وإساسيا وترمز إلى الصين يعاني المجتمع فيها من الطبقية شأنه شأن أي مجتمع يسوده الفقر والتخلف وينقسم إلى الطبقة العليا أي الطبقة الحاكمة، والطبقة الوسطى وتشمل أعضاء الحزب الخارجي والطبقة الدنيا وتشمل البروليتاريال أي عامة الشعب الجاهل. وينستون سميث أحد أعضاء الحزب الخارجي وموظف حكومي يعمل في وزارة الحقيقة، ووظيفته فبركة المقالات والأخبار وتزييف الحقائق التاريخية وتشويه سمعة الأشخاص غير المرغوب فيهم أو الأعداء والتخلص على كل ما يدل على وجودهم مسبقاً من صور أو ووثائق ورميها في ثقوب الذاكرة، ومن فرط التزوير الذي يقوم به وينستون كان دوماً ينسى تاريخ اليوم الذي هو فيه، لهذا يقرر أن يكتب مذكراته في دفتر خاص، يبدأ من شدة خوفه بحرف ثم بكلمة ثم تصبح جملاً طويلة، ويكتشف أنه يكره الحزب ويمقت الوضع بصورة عامة ويتلمس شخصاً ما ليشاركه هذه المشاعر، وعانى وينستون من الازدواجية فهو يكتب من دون تعب أو ملل لتمجيد الحزب الحاكم والآخر الأكبر، وفي السر يلعنهما، ويكتشف بعد مدة أن جوليا المتعصبة للحزب وتروج له بكل قوة وعضوة رابطة الشباب المناهض للجنس تشاركه في كرهها للحزب والأخ الأكبر وتحلم بالحرية سراً، وتنشأ بينهما علاقة حب، ويقضيان أوقاتاً معاً يتشاركان التأملات والأحلام في غرفة لا توجد بها شاشة رصد أو هكذا كانا يظنا، لكن يتم كشف أمرهما ويتم القبض عليهما وتعذيبهما في وزارة الحب بتهمة جريمة الفكر ويرسلانهما في نهاية المطاف إلى غرفة 101 التي تدفع الأشخاص الذين يتم تعذيبهم بها إلى حب الأخ الأكبر ولعن التمرد والفكر، فكلما ازدادت قوة السطلة قل تسامحها، وكلما ضعف المعارضون اشتدت قبضتها. ابدع ارويل في الرموز والمصطلحات المتناقضة ليعبر بها عن نفاق الحكومة، فبالإضافة إلى وزارة الحقيقة التي تهتم بالتزوير ووزارة الحب التي تهتم بالتعذيب، هناك وزارة الوفرة لكنها كانت تدعو للتقشف حتى أنها منعت القهوة والحلوى، ووزارة السلام وهي مختصة بالترويج للحرب، عالجت الرواية الكثير من الأفكار ومنها: الرقابة الشمولية فلا معنى ولا وجود للخصوصية حتى لأعضاء الحزب، برمجة العقل والمشاعر لخدمة الحزب الحاكم ورئيسه الأخ الأكبر، ومحاربة التفكير الحر والفردانية واعتبارهما جريمة كبرى، وتقييد الزواج بشروط قاسية وتربية الأطفال على مراقبة ذويهم والوشاية بهم. كما ناقش فكرة القومية التي تهدف إلى التحكم بالبروليتاريا وهذا واضح من دقيقتي الكراهية التي يقضيها الشعب كل يوم للعن أوراسيا وإيساسيا، والقومية هذه مهمة للسلطة الحاكمة لجعل الشعب غير الواعي سياسياً ممتلئ بفكرة الوطنية البدائية واللجوء اليها إذ استلزم الأمر، كما عرض فكرة تأليه السلطة، وأن السلطة بحد ذاتها غاية وليست وسيلة كما يدعي السياسيون والحكام، فالحاكم لا يشكل سلطة لحماية الثورة، بل يشعل الثورة لإقامة نظام استبدادي. الرواية كانت بين السوفيت والنازيين واستلهمها أوريل من الرقابة الشموليّة التي أقامها الإتحاد السوفييتي بداية من عهد لينين وستالين والنظام النازي في المانيا، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلاً في الإتحاد السوفيتي كانت هناك منظمة اسمها غوسكينو مهمتها مراقبة الكتب بكل أنواعها وكذلك الأفلام السينمائية، وقامت هذه المنظمة بحرق جلّ الكتب التي كانت منتشرة قبل الثورة البلشفية، وازالت صور كل الاشخاص الذين تم وصفهم بأنهم أعداء الشيوعية من الجرائد والملصقات والوثائق ليتطابق وصفهم باللا أشخاص كما عبر عنهم أوريل في الرواية. لعل قارئ الرواية يجد تشابها كبيرا بين الأخ الأكبر وستالين من حيث سطوة كل منهما على عامة الشعب والتحكم فيه فكريا ومشاعرياً. أما ألمانيا النازية فوزارة التنوير والدعاية فيها تتشابه مع وزارة الحقيقة في الرواية، إذ كانت وزارة التنوير تعمل على تغيير الحقائق والتحكم بالشعب والتثقيف للنازية وتمجيدها، كما تأسست منظمة شباب هتلر التابعة للحزب الحاكم لإشباع الأطفال بعقيدة الرايخ وتعليمهم الطاعة العمياء والولاء التام للحزب والابلاغ عن كل معادٍ للسامية الألمانية وهو ما جاء في الرواية. في برلين تم حرق أكثر من 25 ألف كتاب بحجة أنها منبع للفساد والشر. كل ما سبق كان استشرافاً من أوريل في روايته وهو بالفعل ما حصل في الإتحاد السوفييتي فيما بعد، وهذا ما جعل منها تحفة أدبيّة صالحة لكل زمان، فكم من أخ أكبر منتشر الآن في كل أنحاء العالم.